عمل الرئيس الامريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب خلال السنوات الأربع الماضية التي قضاها في البيت الأبيض على إيلاء اهتمام خاص بمنطقة آسيا/الباسفيكي من منطلق أنها منطقة ذات أهمية بالغة للمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة.
وكان من ملامح هذه السياسة مواجهة الصين بتشكيل تحالف رباعي من الولايات المتحدة والهند واليابان واستراليا، علاوة على تحييد الخطر الذي تمثله كوريا الشمالية على الدولتين الحليفتين في شمال شرق آسيا وهما اليابان وكوريا الجنوبية، من خلال قمتين عقدهما ترامب مع نظيره الكوري الشمالي “كيم جونغ أون” في سنغافورة وفيتنام ولم تؤديا إلى النتائج المنشودة.
ويبدو أن الإدارة الديمقراطية الجديدة بقيادة الرئيس الجديد جو بايدن، الذي أعلن أن واشنطون عائدة لقيادة العالم، عازمة هي الأخرى على الاهتمام بهذه المنطقة الحيوية لكن في صورة مختلفة ووفق توجهات مغايرة، خصوصا وأن إدارة الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما سارت على المنحى نفسه، لكن دون مواجهة الصعود المشهود للصين اقتصاديا وعسكريا.
ولعل من دلائل اهتمام إدارة بايدن بمنطقة آسيا/الباسفيكي قيامها بتشكيل هيئة متخصصة من كبار عقول السياسة الخارجية للإشراف على شؤون المحيطين الهندي والهاديء في مجلس الأمن القومي، ناهيك عن إختيار بايدن لأحد كبار الخبراء المخضرمين، من ذوي الدراية الواسعة بأمور هذه المنطقة لتولي ما أطلق عليه منصب “قيصر آسيا”، وهو “كورت كامبل” الخبير في الشؤون الآسيوية ومساعد وزير الخارجية الأسبق لشؤون شرق آسيا في عهد آوباما والذي ستكون مهمته التنسيق بين الوكالات المتعددة، بما فيها وزارتي الخارجية والدفاع ومجلس الامن القومي، لجهة تغطية المصالح الإستراتيجية الأمريكية في المحيطين الهاديء والهندي وجزء من اليابسة الأوروبية الآسيوية. وقد لقي تعيين كامبل ترحيبا فوريا من وزيرة الخارجية الأسترالية “جولي بيشوب”، ووزير الخارجية الياباني “توشيميتسو موتيجي”.
وبطبيعة الحال، لن يكون كامبل وحده في مهمته العسيرة المتمثلة في إعادة ترتيب الأوراق التي بعثرتها إدارة ترامب بتوجهات تصعيدية. إذ سيكون إلى جانبه زملاء مخضرمون من إدارة أوباما ونجوم جدد صاعدين على رأسهم “إيلي راتنر” نائب مستشار مجلس الأمن القومي السابق، و“راش دوشي” مدير مبادرة الاستراتيجية الصينية في معهد بروكينغز، و“لورا روزنبرغر” مساعدة وزيرة الخارجية الأسبق هيلاري كلينتون، علاوة على وزير الخارجية الجديد “أنتوني بلينكين” وزميليه وزير الدفاع الجديد “لويد أوستن” ومستشار الامن القومي الجديد “جيك سوليفان”.
وبحسب التصريحات التي صدرت عن بايدن ، سواء خلال السباق للفوز بالبيت الأبيض أوبعده، وتصريحات وزير خارجيته المعين فإنه من المستبعد أن يتخلى بايدن عن سياسات سلفه الخاصة بالصين التي تشكل محور الإهتمام الأول لواشنطون في آسيا، لكن بقراءة متفحصة لمقالات الثلاثي كامبل وراتنر ودوشي المنشورة في الدوريات الأمريكية الرصينة، نجد إشارات صريحة إلى ضرورة أن تتبنى واشنطون سياسات وتكتيكات جديدة في آسيا محورها احتواء الصين والحفاظ على السيادة الإستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة، من خلال استراتيجية متعددة الأطراف، بمعنى بناء شبكة من التحالفات مع القوى المتشابهة في التفكير والمخاوف، لاتقتصر على القوى الآسيوية الكبيرة وانما تضم أيضا القوى الأوروبية الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، واستخدام الدبلوماسية والمبادرات النوعية، وذلك بديلا عن أسلوب ترامب الذي اعتمد الأحادية والعدوانية والخطب النارية في حربه مع الصين وركز على التجارة دون استخدام عناصر ضغط أخرى. وبعبارة أخرى فإن كامبل وزملاءه ــ طبقا لما صدر عنهم ــ يتوقع أن يرسموا ويقترحوا سياسات أمريكية خاصة بآسيا لا تبتعد في جوهرها عن سياسات ترامب، لكنها تختلف عنها في الإطار الخارجي من حيث العمل والتعاون مع الشركاء والحلفاء والمنظمات الدولية لإقناع الصين بجدوى التعاون السلمي بدلا من المنافسة المعتمدة على شعارات الحرب الباردة.
ومع التأكيد على صحة ما قاله” شينغ شياو”، الأستاذ المشارك في العلاقات الدولية بجامعة رينمين في بكين، من أن العلاقات الأمريكية الصينية لن تعود إلى ما كانت عليه من قبل لأنها بلغت مرحلة سيئة للغاية في عهد ترامب، فإن واشنطون في عهد بايدن، ستحاول أن تكون صاحبة توجهات أقل راديكالية فيما يتعلق بالصين وستحاول إبراز الدور الامريكي في قيادة العالم من خلال الدبلوماسية والتعاون بدلا من الاصطدام المباشر والصراع المؤدي إلى زعزعة الأمن والإستقرار في المحيطين الهندي والهاديء أي قريبا مما ساد خلال النصف قرن الماضي منذ الزيارة التاريخية للرئيس الامريكي الأسبق ريتشارد نيكسون إلى بكين سنة 1972. ففي فبراير من تلك السنة قام نيكسون بأول زيارة لرئيس أمريكي للصين الشعبية والتقى زعيمها آنذاك ماو تسي تونغ، مدشنا صفحة جديدة في العلاقات الأمريكية الصينية التي راحت تتنامى مذاك دون معوقات تذكر إلى أن جاء دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة عام 2016 وبدأ سياسة جديدة قوامها التصعيد، علما بأن ترامب بدأ عهده بالإشادة بالصين وقيادتها وعدم التطرق إلى مسائل حقوق الإنسان التي دأبت إدارة سلفه الديمقراطي باراك أوباما على إثارتها من وقت إلى آخر.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشئون الآسيوية من البحرين