قدم 13 عضوا في مجلس النواب اللبناني – يطلقون على أنفسهم “كتلة النواب التغييريين” – رؤيتهم لرئيس لبنان المتوقع انتخابه لخلافة ميشال عون، الذي تنتهي رئاسته المشؤومة منتصف الشهر المقبل. رؤية التغييريين ضاهت بركاكتها الفكرية والسياسية الضحالة اللبنانية الحاكمة، وهو ما يؤكد أن مشكلة لبنان أعمق من فشل وفساد حكّامه إذ أن “دود الخل منه وفيه”، حسب القول المحلي.
وللإنصاف، لا يتبنى كل التغييريين هذه الركاكة، فمن سنح له الاطلاع على مسودة “حزب تقدم” حول رؤيته للرئيس المتوقع والرئاسة، يري أن “حزب تقدم” متقدم بأشواط، فكريا وسياسيا، على كتلة النواب التغييريين، والأرجح أن نائبي “تقدم” وافقا على رؤية التغييريين في سبيل الحفاظ على تماسك الكتلة التغييرية داخل البرلمان.
وتنص رؤية التغييرين على ضرورة انتخاب رئيس “يكون فوق الأحزاب والأطراف، فوق الاصطفاف، فوق الفئويّة، فوق الاستئثار، فوق التبعيّة، متحرّرا من كلّ التزام مسبق”، وهذا شرط يعاكس أصول الديموقراطية، إذ أن رؤساء الدول ليسوا قديسين، ولا هم فوق الانقسامات الشعبية والحزبية، بل أن الرؤساء يفوزون بمناصبهم وفقا لانحيازاتهم المعلنة لسياسات دون أخرى، وهي انحيازيات تعود عليهم بدعم أحزاب وفئات وتيارات تجتمع على انتخاب هذا الرئيس أو ذاك، وتسانده في فترة حكمه، فلا يكون الرئيس طوباويا صوريا لا قاعدة شعبية له لتؤيد مواقفه وسياساته.
إلا أن الطامة الأكبر تمثلت في إضافة التغييرين الى مواصفات رئيس لبنان المنشود شرط أن يكون متمتعا بـ”إيمان مطلق بالقضية الفلسطينية”. طبعا، شرط انحياز رئيس لبنان للقضية الفلسطينية يتنافى مع مطلب التغييريين أن يكون الرئيس “فوق الاصطفاف”، وبلا انحياز، فالقضية الفلسطينية لا تتمتع بإجماع اللبنانيين، وتتطلب تاليا انحيازا مع فريق ضد آخر.
بعيدا عن التناقض في المطالبة برئيس لبناني “مؤمن بالقضية الفلسطينية” يكون في الآن نفسه حياديا، تبدو ضحالة التغييريين واضحة في تخبطهم في التمييز بين المواضيع الإيمانية والمصلحة اللبنانية. في المصلحة لا مكان للعواطف ولا للمشاعر. قد يرى هؤلاء النوّاب أن القضية الفلسطينية عادلة ومحقة وأن إسرائيل متوحشة ومفترية، إلا أن رأيهم هذا لا يهم، ولا يرتبط بمصالح لبنان، ويجب تاليا أن لا يرتبط بسياساته أو باختيار سلطتيه التنفيذية أو التشريعية.
الدول، كل الدول، هي كيانات طوعية قائمة على تراضي مواطنيها بالعيش وفق “عقد اجتماعي” غالبا ما يسميه الناس دستور. هذا الدستور يعامل المواطنين بالتساوي بغض النظر عن جنسهم أو اثنيتهم أو معتقدهم، وهو ما يعني أنه لا يهم إن كان الفلسطينيون عربا أو مسلمين أو مشرقيين مثل غالبية اللبنانيين. طالما أن الفلسطينيين فلسطينيون واللبنانيين لبنانيون، تبقى دولة لبنان مدينة لمواطنيها بحماية ورعاية وسهر على مصالحهم، ولا تشمل هذه الرعاية غير اللبنانيين، فلسطينيين أو غيرهم. وهذا قول لا يلغي التضامن الانساني مع غير اللبنانيين، لكن التضامن شيء ورهن سياسات لبنان بفلسطين أو سوريا أو غيرها شيء آخر.
ومن نافل القول إن لدى الفلسطينيين أنفسهم إدراكا أكبر للوطن والمواطنية من اللبنانيين. مثلا، لا نرى الفلسطينيين يرفعون أعلام لبنان، ولا نراهم يشنون حملات على وسائل التواصل الاجتماعي للمطالبة بعودة مدخرات المودعين اللبنانيين، ولا ينظمون حملات تبرع مالي لشراء أدوية للبنانيين أو لتأمين الكهرباء أو الانترنت. فعليا، يندر أن ترى فلسطينيا يتفاعل مع قضايا اللبنانيين عدا عن تهليله لحزب الله اللبناني كلما انخرط الأخير في مواجهة مسلحة مع إسرائيل، بغض النظر عن التكلفة الباهظة التي يتكبدها اللبنانيون لمواجهات من هذا النوع.
غالبية اللبنانيين لا يبدو أنها تفهم معنى الدساتير والمواطنين والدول، بل هي تعامل القضية الفلسطينية بمثل الإيمان الديني الخارج عادة عن النقاش، كما عن السياسات والمصالح. والإيمان فعل لا يرتبط بالمنطق أو العقلانية، إذ أن المطلوب من المؤمنين عادة ترديد عبارات ماورائية تأثيرها غير مادي ولا محسوس.
والقضية الفلسطينية كالأديان، لا بداية لها ولا نهاية، ولا حتى الفلسطينيين أنفسهم لديهم رؤية واضحة لأهداف معينة يمكن تحقيقها في فترة زمنية معلومة، بل أن الفلسطينيين ينخرطون في ما يسمونه “صراع أجيال” مع الإسرائيليين، ويرفضون قياس أوضاعهم المعيشية وفقا لمقاييس مفهومة، بل يعلون المشاعر والأحاسيس غير المادية حول الكرامة والعنفوان على العلم والقياس، وهو ما حوّل الصراع الفلسطيني الى ديني لا عقلاني، لا أهدافه واضحة، ولا ارتباط المصالح الفلسطينية به جلية.
ولأن الفلسطينيين يتخبطون في صراعهم، صار موقفهم الوحيد الشكوى والمظلومية، وصارت خطتهم الوحيدة الهتافات والمكابرة، فلماذا ربط لبنان بصراع عبثي لا أول له ولا آخر؟ وماذا يعني “الإيمان المطلق” بالقضية الفلسطينية؟ هل يعني نسج سياسات لبنان وفق حل الدولتين الذي تقبل به السلطة الفلسطينية القائمة في رام الله؟ أم وفق رؤية حماس لطرد كل الإسرائيليين وإقامة دولة إسلامية من البحر الى النهر؟ أم أن “الإيمان المطلق” بالقضية الفلسطينية يعني تمسك اللبنانيين بحل الدولة الواحدة الثنائية القومية الذي ترفضها غالبية من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي؟
ثم ماذا تعني سياسة تمسك لبنان بالقضية الفلسطينية؟ تعني في الغالب رفض السلام والتطبيع مع إسرائيل، وهو ما يعني خسارة لبنانية بمليارات الدولارات من التجارة الممكنة مع دولة إسرائيل، كما من السياحة والاستثمارات الدولية التي يمكن أن تتدفق على لبنان بسبب السلام (لا كرمى لعيون إسرائيل، ولكن بسبب الاستقرار وامكانية الافادة من سوقين متجاورتين لبنانية وإسرائيلية).
لم يعر التغييريون وقتا كافيا للتفكير في إصرارهم على انتخاب رئيس لبناني لقضية فلسطينية، ولا يبدو أنهم فكروا مليا في تنافي هذا المطلب مع مبدأ الدولة، ومع السياسات المطلوبة لحماية مصالح لبنان ومواطنيه لا سياسات لمصلحة قضية الجيران.
طريق لبنان إلى التغيير طويلة، وهي للأسف لم تبدأ بعد، ويبدو أنها مثل القضية الفلسطينية، جدولها الزمني مرتبط بالأجيال، لا بالسياسات الآنية ذات الجداول الزمنية المعلومة، ولا بالانتخابات البرلمانية أو الرئاسية.