(الصورة: الزراعة الحديثة بصحراء النقب)
قبل عبور نقطة التفتيش الإسرائيلية وبعد ان تعافيت من إهانات ضابط التفتيش الاسرائيلي، قفز الى ذهني موقفان:
الموقف الأول: حدث عندما كنت طالبا في كلية الهندسة بجامعة القاهرة. سافرت من مصر الى مدينة هامبورج بألمانيا للتدريب الصيفي في شركة هندسية، ومن هناك سافرت ذات عطلة نهاية الأسبوع الى مدينة كوبنهاجن بالدانمارك. وأثناء وجودي في محطة القطارات الرئيسية في كوبنهاجن قررت إرسال « كارت بوستال » الى اسرتي في مصر لكي “اتمنظر” عليهم بأني أجوب أوروبا الشمالية! وأثناء انهماكي بكتابة « الكارت بوستال » باللغة العربية، سمعت صوت شاب ورائي يخاطب صديقته باللغة الإنجليزية، ويقول لها: “نحن لسنا الوحيدين الذين نكتب من اليمين الى اليسار”! وقلت في نفسي: “أخ؛؛؛ يبدو ان هذا الشاب يهودي إسرائيلي، فهم مثلنا يكتبون اللغة العبرية من اليمين الى اليسار”! وكانت هذه اول مرة في حياتي أشاهد شخصا يهوديا! ووجدته يمد يده للسلام علي، وترددت قليلا في مد يدي، ولكني أخيرا مددت يدي (فقط من أجل البنت الحلوة الشقراء الاسكندنافية التي كانت معه)، وعرفت انه من أسرائيل. وكان من سني تقريبا، ووجدت انه أنسان عادي له يدان ورجلان وعينان وأنفه ليس معوجا مثلما شاهدنا اليهود في الأفلام، ولا يتكلم بطريقة خنفاء (أي لا يتكلم من منخاره) ، ولم يكن ذا ائحة كريهه كما ذكر هتلر في كتابه (كفاحي)! ولم يثبت لي أبدا انه « من أحفاد القردة والخنازير »، حيث انني لم ألحظ وجود أي شبه بينه وبين القردة والخنازير!
ودار بيننا حديث عادي وبعد ٢٠ دقيقة وجدت نفسي أتبادل معه طوابع مصرية بطوابع إسرائيلية، حيث كنت وقتها من هواة جمع الطوابع ودائما كنت احمل في محفظتي طوابع بريد مصرية، والحقيقة ان هذه المقابلة في كوبنهاجن قد غيرت نظرتي تماما عن أسطوانات الكراهية لليهود التي نشأنا وتربينا عليها؛ وقرأتها في كتاب “بروتوكولات حكماء صهيون“.
الموقف الثاني: حدث عندما كنت أعمل في مشروع بناء محطة كهرباء في شمال الدلتا وكان رئيسي في المشروع هو مستر (لينزي والتون) (رحمه الله) وهو من المحافظين الأمريكان ونشأ في الجنوب الأمريكي في ولاية جورجيا. وكان صعبا معي في البداية، ولكنه بعد ان تعرفنا على بعضنا البعض أصبحنا أصدقاء وكان يعاملني مثل ابنه. وفي إجازة عيد الفطر، قرر السفر لأول مرة في حياته الى إسرائيل لزيارة مدينة القدس، وسافر مع زوجته (بيتي والتون) بالسيارة من القاهرة الى القدس. وبعد عودته، سألته عن رأيه فيما شاهد في فلسطين وإسرائيل، وقال لي وهو في غاية الاحراج: “سوف أقول لك رأئي بصراحة، وأرجو ألا أجرح مشاعرك بصفتك مسلم وعربي وتتعاطف مع الفلسطينيين! عندما رأيت أن معظم الاسرائيلين يعملون بجد واجتهاد في الحقول والمصانع برغم وجود بحر من الكراهية حولهم، وفي نفس الوقت رأيت العديد من الفلسطينين يقضون أوقاتهم على المقاهي يلعبون الطاولة ويدخنون الشيشة في استرخاء كامل، فأي الشعبين تعتقد سوف ينال احترامي، وأي الشعبين سوف ينال شفقتي ؟”
وكنت اعتقد ان مستر والتون يبالغ، ولكنه والحق يقال لم يكن يبالغ كما سوف ترون فيما يلي من تلك الذكريات.
…
ها أنذا اطأ بقدمي أرض إسرائيل، او “أرض الميعاد” كما يطلق عليها اليهود، او “الكيان الصهيوني” كما يطلق عليها معظم العرب. هذه هي إسرائيل التي حاربتها عام ١٩٧٣ أثناء وجودي في قوات الجيش الثاني في الضفة الغربية لقناة السويس. هذه هي إسرائيل، ولو كان أبي الشيخ أحمد البحيري حيا لتبرأ مني لقبولي بالقيام بتلك المهمة والتي تضمنت زيارة إسرائيل! جالت في ذهني كل هذه الخواطر، وأنا أبحث عن سيارة أجرة تأخذنا من رفح الى القدس. واكتشفت ان السيارات في إسرائيل والضفة الغربية وغزة لها لوحات ارقام مميزة بألوان مختلفة، لوحات سيارات الضفة الغربية لونها ازرق وقطاع غزة لونها ابيض، والقدس وإسرائيل لون لوحات السيارات أصفر. واخترنا سيارة لوحاتها صفراء لأننا كنّا متوجهين لمدينة القدس، ولحسن الحظ كان السائق فلسطينيا من سكان القدس.
ركبنا السيارة، والجو كان لطيفاً، فقد كنّا في أواخر شهر فبراير او أوائل شهر مارس على ما اذكر، ولم نكن نحتاج تكييف سواء بارداً او ساخناً فقمنا بفتح نوافذ السيارة لكي نستمتع بالهواء الطلق. ومشت السيارة في صحراء النقب، والتي لم تعد صحراء، والحق يقال بان الطريق من الحدود المصرية الإسرائيلية وحتى مدينة القدس كنّا نرى في اغلبه خضرة ومزروعات على مرمى البصر. وتذكرت بأن المصريين قد تعلموا زراعة الصحراء الحديثة وطرق الري الحديثة من الإسرائيليين. ويرجع الفضل لتفوق الإسرائيليين في زراعة الصحراء الى (دافيد بن جوريون) وهو من مؤسسي دولة إسرائيل وأول رئيس وزراء لإسرائيل بعد إنشائها. فقد وجد بن جوريون بأن معظم المستوطنين اليهود الذي حضروا الى فلسطين بأعداد كبيرة كانوا يعملون بالأعمال التقليدية التي تعود عليها اليهود عبر التاريخ، مثل التجارة والسمسرة والبنوك، فانزعج من ذلك كثيرا وطالب وحث المستوطنين الجدد على شراء الأراضي والعمل بالزراعة، لان تملك الأراضي والزراعة سوف تثبت اقدام المهاجرين اليهود في فلسطين. اما اعمال التجارة والبنوك وغيرها فأعمال خدمية ولا تستطيع ان تربط المهاجر اليهودي بالأرض ولن تساعد في خطة انشاء وطن قومي لليهود على ارض فلسطين! لذلك بدأ اليهود بتعلم الزراعة، وخاصة زراعة الصحراء. ولقد علمت مؤخرا أن أسرائيل تنتج حوالي ٩٥٪ من احتياجاتها الغذائية بالرغم من أن معظم أراضيها صحراء وبالرغم من ندرة المياه! ومنذ اعلان قيام دولة إسرائيل عام ١٩٤٨ وحتى عام ٢٠١٦ زاد الإنتاج الغذائي ١٦ مرة، وتضاعف عدد السكان خمس مرات! ولا يعيبنا في شيء نحن العرب ان نتعلم زراعة الصحراء من الاسرائيلين، لان العرب تاريخيا لم يزرعوا الصحراء ولكنهم كانوا يقومون برعاية الأغنام والإبل. وعرب الأنهار زرعوا بجوار النهر مثل نهر النيل ونهري دجلة والفرات، وبعض العرب اعتمدوا على زراعة الأمطار مثل شمال سوريا وبعض بلاد المغرب العربي واليمن. لذلك كان ولا بد لنا من ان نستفيد من خبرة إسرائيل في زراعة الصحراء وحسنا فعلت مصر بالاستفادة من التجارب الإسرائيلية في ري الزراعات الصحراوية بالتنقيط. وهناك تجارب وابحاث إسرائيلية متقدمة أيضا في زراعة نباتات معينة باستخدام مياه البحر مباشرة، وهذه الأبحاث لو نجحت فسوف تحدث ثورة زراعية وغذائية هائلة حول العالم…
وأخيرا وصلنا على مشارف القدس، دخلها صلاح الدين الأيوبي على حصانه ودخلها سامي البحيري مستقلا سيارة اجرة!