خصصت مجلة (تايم) الأمريكية عددها هذا الأسبوع عن (أسرار السعادة) وكتب عدد من الخبراء الأمريكان مقالات عن السعادة من منطلق أمريكي. خاصة أن وثيقة الاستقلال الأمريكية (عام 1776) تنص على أن من حق المواطن “الحياة، الحرية، السعي للحصول على السعادة”.
جيمس ماديسون، الرئيس الرابع لأمريكا، ويعتبر من مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية وأبو الدستور الأمريكي، قال أن “الوظيفة الرئيسية للحكومة هي سعادة المواطنين”.
وقامت مجلة التايم بنشر مقابلة مع الدكتورة “لوري سانتوس”، الاستاذة في جامعة ييل. وهي تقوم بتدريس كورس (السيكولوجيا والحياة الجميلة) وتقول فيه أن إنسان العصر الحديث يلهث ويحرق نفسه في الجري وراء الأشياء منتظراً أن تحقق له السعادة، وأنه يلزمه تغيير نظرته لتلك الأشياء! ونظرا للنجاح الكبير لدروسها عن السعادة، قررت عمل برنامج إذاعي على النت (بودكاست) بعنوان (معمل السعادة). وتسعى في هذا البرنامج لقياس علمي للسعادة بإعطاء درجات لكل عنصر من عناصر السعادة الإنسانية، واكتشفت أثناء بحثها في الموضوع أنها هي نفسها أصبحت ضحية لـ”مفرمة” الحياة، ما أبعدها عن الوصول للسعادة التي تقوم بتدريسها للطلاب!
لذلك قررت أن تأخذ أجازة سنة كاملة مع زوجها ليقوما بأشياء تجلب لهما السعادة مثل ممارسة الرياضة أكثر، التواصل مع الأصدقاء والأحباب، والأكل الصحي، والقيام بأعمال خيرية. وقامت بعمل مقياس للسعادة يتكون من: المشاعر الإيجابية، الانخراط في المجتمع، العلاقات الإنسانية، معنى الحياة، النجاحات! ووجدت أن الطلاب الذين حضروا محاضراتها عن السعادة وبدأوا في تطبيقها على أنفسهم قد زاد مقياس السعادة لديهم بمقدار عشرة بالمائة!
وفي تلك المقالات يجمع الكتاب بأن مفهوم السعادة يختلف من شخص لآخر ومن وقت لآخر أيضا. الشيء الذي كان يجلب للإنسان السعادة في القرن العاشر ربما يختلف عما يجلب للأنسان السعادة في القرن الواحد والعشرين!
حتى السعادة لها مقاييس علمية وإحصائيات. وقد أوردت مجلة “تايم” هذا الرسم البياني لقياس الحياة اليومية وكيفية انعكاسها على السعادة. فتجد الأنشطة التالية التي تجلب السعادة: قضاء وقت مع الأسرة خارج البيت، الاشتراك في مجموعة علاجية، قضاء وقت مع الأصدقاء، الصلاة، التأمل، قضاء وقت في الطبيعة، ممارسة الرياضة، الهوايات الخاصة، تخصيص وقت كاف للنوم.
وفي كل هذه الأنشطة، تكتب كم مرة تمارسها يوميا وأسبوعيا، وفي النهاية تحصل على مقياس سعادتك!
طبعا هذا في أمريكا بلد العلم والإحصائيات، أما في مصر فأنا مؤمن بمقولة الشاعر الموهوب فؤاد حداد الذي كتب أغاني المسحراتي التي غناها سيد مكاوي، وكان يقول: “الرجل تدب مطرح ما تحب”. بمعنى أنك ستأخذك قدماك إلى كل ما تحب ويسعدك، لذلك فما يسعدني قطعا يختلف عما يسعدك.
(استمع إلى هذه المقطوعة الجميلة شعرا ولحنا وأداء من المسحراتي سيد مكاوي:
وبدون الدخول في الإحصائيات والقياسات العلمية الأمريكية عن السعادة، %يعني بالبركة كده بالصلاة عالنبي”، أتذكر كيف كنت صبيا سعيدا بالرغم من نشأتي نشأة بسيطة جدا. فقد نشأت وتربيت في حي مصر القديمة بالقاهرة بالقرب من جامع عمرو بن العاص، أول مسجد بني في مصر، والكنيسة المعلقة وهي من أقدم الكنائس في مصر وكنيس بن عزرا اليهودي وهو أقدم المعابد اليهودية في القاهرة،
وكل هذا كان له تأثير كبير على تكوين شخصيتي. حيث كنا نشاهد تلك الأماكن ونحن أطفال عندما كنا نذهب لصلاة الجمعة في جامع عمرو بن العاص. وكنت أقضي معظم الوقت إما في المدرسة في “حي السيدة زينب” أو في الشارع، ولا أذهب للبيت إلا لقضاء الواجبات المدرسية أو لقضاء الحاجة أو للأكل والنوم. يعني البيت كان بالنسبة لي مثل الفندق، وأتذكر تلك الأيام الآن وأفتقدها وكانت أياما سعيدة جدا بالرغم من أن أسرتي كانت ما بين الطبقة المتوسطة وحد الفقر! فكان راتب والدي كمدرّس ينتهي يوم 17 من كل شهر. وكان على أمي أن تدبر نفسها في الصرف على البيت باقي أيام الشهر! ولم نتملك أي شيء، فكنا نسكن بالإيجار في شقة غرفتين نوم بالدور الرابع بدون أسانسير، ولم نكن لدينا سيارة وكنت أذهب إلى المدرسة إما سيرا على الأقدام أو أتشعبط في الترماي أو الأتوبيس. ولم يكن لدي أي لعبة سوى الكرة الشراب الأسفنج التي كنت أصنعها بنفسي وذلك بعد أقتباس بعض من أسفنج مقاعد الأتوبيس (في غفلة من الكمساري)!
وكان كوب عصير قصب من عند عم سعد عفيفي في الميدان يساوي الدنيا وما فيها، وخاصة بعد مباراة كرة شراب في الحارة أيام أجازة الصيف الحر.
وكثيرا ما كنت أتساءل: ماذا كان مصدر السعادة التي كنت أشعر بها وأنا طفل لا يملك في الدنيا أي شيء سوى كرة شراب (سرق معظم محتوياتها من الأتوبيس). وجدت أسبابا عديدة:
أولا: وجودي وسط أصدقاء وجيران الحارة، وكنا نلعب ونضحك طول الوقت ونذهب للسينما كلما توفر لنا ثمن تذكرة الترسو (الدرجة الثالثة في السينما)؛
ثانيا: وجود حب الأم وحب أخوتي الأكبر مني والتزويغ من علقة ساخنة من والدي (أحيانا)؛
ثالثا: الإستمتاع بكل شيء حولنا. لم يكن يحتاج لأي نقود تُذكر (أغلب الأحوال): تمشية على كورنيش النيل، اللعب في الحارة، قراءة كتاب جميل، الإستماع إلى أغنية جميلة من راديو محل عصير القصب حيث كان عم سعد عفيفي يرفع صوت الراديو لأعلى درجة ممكنة لكي يستمع له كل أهل الحي؛
رابعا: التفوق في الدراسة، حيث كنت دائما من الثلاثة الأوائل على فصلي (مثل معظم الآباء!!)، وإن كانت أجمل أيام الدراسة هي أيام أجازة الصيف؛
خامسا: صحة ممتازة (كنا لا نشعر بها وقتها) تمكننا من لعب الكرة لأكثر من ثلاث ساعات مستمرة في عز الصيف.
…
ودائما ما أتساءل: هل السعادة هي حالة دائمة أم لحظات وومضات وقتية؟