فرضت جائحة كورونا ما سمي “التباعد الاجتماعي” على نصف سكان الكوكب تقريبا. إنه الخوف من الآخر، حامل العدوى المحتمل، وناقل الفيروس القاتل. صرنا نتابع عداد الموت الشغال دون توقف، الذي تحول إلى هاجس على طول الكوكب وعرضه.
تصفعنا على مدار الساعة مشاهد المصابين في المشافي والطرقات، والموتى في الحفر التي تفغر فاها طالبة المزيد ممن لا تسعهم المدافن أو لا أهل لهم أو ممن يرفض استقبال جثثهم خوفا من العدوى.
يتعمم الخوف والقلق على المستقبل والاضطراب والشعور باللاأمان. انقلبت أحوال البشر وتعطلت مؤسساتهم وفرغت. الجوع بات يهدد الملايين من ذوي الأعمال اليومية الصغيرة.
ما يفتح باب أسئلة النهايات و”الأبوكاليبس” وكأننا نعيش تمريننا على يوم القيامة: “كل واحد يا رب نفسي”.
في هذا الوقت الذي ينزوي فيه الفرد في قوقعته تبرز الحاجة الماسة إلى التعاطف Empathy والتواصل مع الآخرين، أي أن يضع واحدنا نفسه مكان الآخر. لكن الاعتقاد السائد أن العلاقات الإنسانية هشة وأنانية لأننا نعجز تماما عن التعاطف، وأننا لو كنا متعاطفين مع الآخرين لأصبحت الحياة الاجتماعية أهدأ وأقل حدة وأفضل نوعية.
عالجت مجلة Philosophie magazine هذا الموضوع في عددها يناير 2019؛ مؤكدة أن الاستنتاج غير دقيق. وقدمت ملخصا لكتاب آدم سميث “نظرية المشاعر الأخلاقية”.
استخدم الفلاسفة في البداية تعبير Sympathie للتدليل على القدرة على وضع أنفسنا مكان الآخر والتعرف على مكامن وجعه. لكن عالم الجماليات روبرت فيشر، عندما وصف علاقتنا بالأعمال الفنية مستخدما كلمة Einfühlung (من مقطعي داخل ومشاعر)، لتسمية ما نشعر به في داخلنا عندما نرى ما هو خارج عنا، بنوع من المحاكاة. فداخلي حرباء تغير درجة نغمتها حسب السياقات والأشخاص الذين أراهم.
سيتوسع النقاش حول هذا المفهوم ويثير اهتمام النفسانيين والفلاسفة. وسيترجم التعبير الألماني إلى empathy ويتم التخلي عن sympathy في فلسفة الأخلاق. أصبح أن تكون لطيفا و sympa يعني أن تكون cool وحبوب، ودخل التعبير في اللغة الدارجة. وانتقل اهتمام الفلاسفة وعلماء الأعصاب واختصاصيي السلوك الحيواني إلى مفهوم التعاطف. حاليا تُجمع مجمل الأعمال العلمية على أن الكائنات البشرية هم أكثر شفافية وأقل لامبالاة نحو بعضهم البعض مما نظن.
عُرف عن عصر الأنوار أنه سجل انتصار العقل؛ بحيث قضى، في تقدمه غير القابل للمقاومة، على الآراء المتحيزة والمسبقة وعلى الخرافات الدينية. لكن ما يُغفل عنه تماما أنه سلط الضوء أيضا، على ما يبدو متعارضا مع العقل، أي المشاعر.
لم يؤخذ عن سميث المعروف بأبحاثه حول طبيعة وأسباب ثروة الأمم (1776) سوى التعبير الشهير: “اليد الخفية” التي تنظم سوقا يتفاعل فيه فاعلون عقلانيون بحسب مصالحهم الأنانية. متناسين أنه كتب من قبل “نظرية العواطف الأخلاقية“؛ ويصف فيه، ليس الكائنات التي تعقلن وتقوم بالحسابات، بل تلك الموهوبة بشيء يسميه أحيانا sympathie وأحيانا fellow feeling موجود في جذور الشفقة والعطف. وصار يعرف بـ empathy .
يشدد سميث أن المفهوم بديهي ولا يحتاج إلى براهين. من المعتاد أن نتعذب لعذابات الآخرين، وأن نحزن بشدة من مصاب أحد دون أن نكون مصابين؛ أو أن نتألم في لحمنا عندما يتعرض أحدهم لضربة. ذلك أن لدينا قابلية النفاذ إلى مشاعر الآخرين، ومزاجهم يؤثر بنا بمعزل عن إرادتنا.
لكن هل يكفي وجود التعاطف كي يترجم سلوكا إنسانيا ومشاركة؟ يجد “بول بلوم” Paul Bloom أن بإمكاننا أن نكون متعاطفين وعنصريين في نفس الوقت. يستند إلى تجارب علم النفس التي تبرهن أننا نتعاطف أكثر مع الذين يشبهوننا أو القريبين منا. ويؤكد أن العنصريين هم أشخاص متعاطفون جدا، ومندمجون في محيطهم وفخورون بتقاسم هويتهم.
التعاطف يسمح بنسج علاقات ضيقة داخل مجموعة معينة. فنحن ننتمي إلى العديد من المجموعات سريعة الزوال التي تشرّط تعاطفنا. فعندما يطلب منا التبرع لإنقاذ حيوات آخرين لا نعرفهم وبين أن نتبرع لطفل عرفنا اسمه وقصته سيكون التبرع للطفل أعلى بكثير من التبرع لجماعة مجهولة. وسنكون أكثر تعاطفا مع مريض السيدا الذي التقط الفيروس بواسطة نقل الدم عن ذلك الذي يتعاطى الهيرويين. لا شفقة لدينا لمن نعتبرهم مسؤولين عن مشاكلهم أو التي لا نوافق عليها أخلاقيا.
كذلك بالنسبة لسميث، فمع أننا نتقاسم مشاعر الآخرين مهما كانت، مع ذلك نجد أن هذا لا ينطبق على جميع الحالات، فالبعض منها لا يثير التعاطف قبل أن نستعلم عما تسبب بولادتها، وعلى العكس قد تثير القرف. فحركات الرجل الغاضب تثير على الأرجح حفيظتنا ضده أكثر مما ضد خصمه. طالما لم نستعلم عما آثارها.
ينتج التعاطف إذن عن الوضعية التي ولدت فيها المشاعر أكثر مما ينتج عن مجرد مشاهدتها. حتى أننا قد نشعر تجاه شخص بمشاعر يكون هو نفسه عاجز عنها، فنحمر خجلا من فظاظة ووقاحة أحدهم مع أنه لا يشعر بعدم ملاءمة أسلوبه.
عندما تكون مشاعر الشخص المعني متفقة تماما مع انفعالات التعاطف عند المشاهد، يجدها هذا الأخير بالضرورة عادلة وشرعية وملائمة لموضوعها. بينما العكس، عندما يجد أنها لا تتماشى مع مشاعره، تبدو بالضرورة مجحفة وغير شرعية ولا تتلاءم مع الأسباب التي أثارتها.
ومهما يكن سبب التعاطف، لا شيء يضاهي رضانا عندما نجد نفس الانفعالات التي تحركنا عند الآخرين. ولا شيء يصدمنا أكثر من غيابها. فالإنسان يعي ضعفه وحاجته إلى دعم الآخرين، يفرح عندما يجدهم متعاطفين لأن ذلك يطمئنه للحصول على دعمهم. إن أكثر ما نستعجله نقل مشاعرنا المؤلمة لأصدقائنا قبل تلك المُرْضية، ونكون سعداء من تعاطفهم ومؤاساتهم. وكأن ذلك يخلصنا من قسم من معاناتنا. فنتخفف من ثقل ما نشعر به. فالضغينة شعور مزعج يمزقنا ما يستدعي العزاء والتعاطف. بينما الحب شعور لذيذ يثير مشاعر السعادة التي تكفينا فلا نعود بحاجة لأي متعة إضافية.
ولقد برهنت الأبحاث النيرولوجية والأيتولوجية عن وجود “نيرونات ـ مرآة” للألم تفسر لماذا عندما نرى شخصا يضرب إصبعه بشيء ينشط شيء ما في داخلي يجعلني أشعر بالألم. إنها مسألة فيزيولوجية وليست مسألة تفكير وتمثلات فقط. وهي موجودة عند الحيوانات التي تشعر بعذاب الآخرين تواسيهم وتساعدهم كما تستبق ما يدور في خلدهم. هذا الميكانيزم قديم جدا ويسمح بتكيف الأنواع مع المحيط، لأنه يساعد على تعديل الفعل بحسب أفعال الآخرين في دائرة تفاعلات معقدة بين الأفراد.
وهذا اكتشاف مهم لأنه سمح باكتشاف قواعد ملموسة للبيذاتيات intersubjectivite . ففي عالمنا، هناك صلة جوهرية مع الآخر. والبعد الاطيقي للتعاطف يجمع بين التشابه والغيرية، دون المرور بمفهوم الهوية. البيذاتية الصحية، المكون المركزي للصحة العقلية، تكمن في القدرة على الإمساك بطرفي الغيرية والتشابه.
كورونا وضعنا أمام أنفسنا، في قلب هذا التحدي، كي نستعيد التوازن المفقود على جميع الصعد. فهو لم يفرق بين الأجناس والأعراق والطبقات. ربما علينا أخذ الدروس من الطبيعة وكائناتها. الغابة ليست مكانا للتنافس والاعتداء كما ساد الاعتقاد، ليتلاءم مع الداروينية التي توسعت كي تطال جميع الكائنات الحية، فاعتبرت أنها لا تتصرف إلا انطلاقا من مصلحتها الأنانية. صرنا نعرف الآن بفضل القنوات mycelium تحت الأرض (جذور الفطر غير الظاهرة)، أن الأشجار لا تتنافس مع بعضها لكنها تتشارك في جسم الغابة العملاق.
الالتماس الهوليستي التعاوني وحده يمكّن العالم من مواجهة هذا الخطر الذي يشملنا جميعا. وعلى ما صرّح بيل غايتس، علينا مواجهته مجتمعين ومساعدة الأضعف على تخطي الأزمة.
نحن الآن أمام امتحان: هل ستستطيع الدول والحكومات توسيع أفق التعاطف ليصبح معولما دون تحيز أو تمييز وكي يطال المجتمعات الأكثر حرمانا؟
في حديثه لألبير كامو، يقول ما فحواه: فرادتي وشخصيتي لا تكون سوى في كوني جزء من الإنسانية. وعلينا وضع الذكاء في خدمة الحقيقة لمقاومة العبودية والكراهية.
monafayad@hotmail.com