ويشكل كل ذلك تهديدا أمنيا على الصعيد العالمي، خصوصاً عندما نوسع مفهوم الأمن ليشمل الأمن البيئي والاقتصادي والبشري.
وتفاقم الوضع في الصيف الفائت مع ما حمله من موجات جفاف استثنائية وصلت إلى أوروبا وأشعلت غاباتها وتسببت بأضرار بحيث باتت تستدعي تدابير طوارئ. في المقابل تنشغل القوى السياسية والحكومات بالتسابق على السلطة وعلى الهيمنة، وعلى مزيد من إنتاج السلاح وتسويقه، خصوصاً بعد الحرب المتفاقمة على أوكرانيا.
فالحكومات تنشغل دائما بمواجهة ما يستجد من مشاكل وتهمل ما يهدد مستقبل الكوكب والبشرية. أوروبا الآن تعاني من نقص في مادتي الغاز والفيول، ما يهدد اقتصادياتها. فبدأ التقنين الكهربائي في المؤسسات الحكومية وبعض المرافق ليلا، ويتخوفون من شتاء قارص.
لكن المواطن الأوروبي لا يبدي الاستعداد اللازم لتغيير أنماط سلوكه واستهلاكه. لفت نظري في هذا السياق خبر عن اقتراح قدمه رئيس وزراء ولاية “بادن فورتمبيرغ” الألماني، وينفرد كريتشمان، أعطى نموذجاً للاستهلاك الرشيد للطاقة، فنصح باستخدام، ما كان شائعاً في السبعينات في أوروبا، بمسح الأجسام بمنشفة مبللة مع الصابون بدلاً من الاستحمام، مضيفاً أنه يستخدم سيارة كهربائية، ولديه لوح شمسي ضخم على سقف بيته لتسخين المياه على مدار ربع قرن، كما يقوم بتدفئة غرفة واحدة فقط بمنزله الضخم.
نُعت اقتراح المسؤول الألماني السابق “بالغريب” من قبل وسيلة الإعلام التي أوردت الخبر. ونقل أنه أثار جدلاً واسعاً بين المواطنين. لأن الرفاه أصبح ضرورة، ناهيك عن الإسراف على جميع المستويات، في الاستهلاك عموما وفي التدفئة والتكييف.
وتسببت الحرب على أوكرانيا في نقص إنتاج الطاقة والاضطراب في توزيعها، بحيث بات الوضع في أوروبا يطرح مشاكل اقتصادية واجتماعية جمة، لكنها تتسبب أيضا بنقص في الموارد الغذائية واضطراب توزيعها، ما يهدد شعوب البلدان الفقيرة بالمزيد من الفقر والمرض إلى حد المجاعة وتهديد الأرواح.
وما نلاحظه على هذا الصعيد أن من يستهلك أكثر ويتسبب بتلوث أكبر يعاني أقل ممن يستهلك القليل من الموارد ويتسبب بالحد الأدنى من الأضرار. وهذا ينطبق على المستوى “الماكرو” بين البلدان، و”الميكرو” داخل كل بلد.
سأعطي المثل من مونريال، التي تنشغل كثيراً بأثر الاحتباس الحراري على البشر وعلى “الإيكوسيستم”، الذي يهدد التوازن البيئي والتنوع البيولوجي للكائنات الحية. إضافة الى أنه يعدّ محفزاً لزيادة اللامساواة الاجتماعية.
خصصت صحيفة 24 ملحقاً خاصاً عن أثر موجات الحر هذا العام على السكان في مونريال. الأمر الذي أثار حزني وشجني عند مقارنة حكومتهم بحكومتنا، لأن معاناتهم أخف بما لا يقاس من جهنم التي رمي فيها اللبنانيون، فبعد أن سرقتهم، حرمتهم من الكهرباء للإضاءة ومن مياه الشرب، مع لذلك من آثار صحية هائلة، وآخر مثل على ذلك سهولة تفشي الكوليرا حالياً.
أقامت الصحيفة مقارنة بين الأحياء المختلفة في مونريال، الغنية التي تحظى بأشجار ظليلة وبيوتها واسعة ومرفهة ومكيفة، والأحياء الفقيرة المكتظة قليلة الأشجار (وليس المعدومة بالطبع كما في بيروت)، عبر قياس درجات الحرارة في تلك المناطق. فوجدوا فارق 8 درجات بين المناطق. والاستنتاج أن العيش في قصر أو في فيلا في (المون رويال) مكيفة مختلف عن العيش في مناطق أخرى، حيث البيوت مكتظة وضيقة ولا تحتوي التكييف، ونسبة المساحات الخضراء لا تتعدى فيها 3,9% مقارنة بنسبة 11,4% في المناطق الأغنى. إضافة إلى أن المناطق الأفقر تكون أقرب إلى المصانع والمعامل، وتتسبب بتدهور صحة ساكني الجوار. وهنا أشارت الصحيفة إلى أن الأكثر تعرضاً للحرمان على هذا الصعيد هم المهمشون من السكان المحليين والنساء والمهاجرين.
إذن التدهور المناخي والظلم البيئي لا يؤثر على الجميع بنفس الطريقة لأنه مرتبط بعائد الأسر ووضعها الاجتماعي. طبعاً عرض المتخصصون لكثير من الاقتراحات التي تعالج المشكلة وتحفظ العدالة، كي لا تعاني تلك الأسر من الآثار الصحية المرتبطة بالحرارة وبوجود عوامل تلوث إضافية تتسبب بها معامل لا تراعي الشروط الصحية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن التفاوت بين البيئات الاجتماعية واللاعدالة ينطبق أيضا على مستوى التفاوت بين البلدان الفقيرة وتلك الغنية. والبلدان الغنية كالأسر الغنية، تستهلك طاقة أكبر وتلوث بنسبة أعلى بكثير وتعاني أقل.
تشير التقارير إلى أن نسبة 1% من السكان الأكثر غنىً في جميع أنحاء العالم مسؤولين عن 50% من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون (CO2). بينما توزع نسبة الـ 50% الباقية على 99% من السكان.
في منطقتنا نجد مناطق عطشى وحكومات عاجزة أو فقيرة لا تخطط ولا تتخذ التدابير اللازمة لتوفير الأمن بالمعنى الشامل لمواطنيها. مقابل حكومة بلد غني مع ثروات بيئية متنوعة ككندا تبحث وتخطط كيف تحافظ على البيئة وعلى راحة السكان وصحتهم.
لقد بدأ الحديث في مونريال عن اعتماد نماذج لبناء منازل صديقة للبيئة في السنوات القليلة المقبلة، ستكون باختصار كالتالي: بيوت أصغر لتستهلك طاقة أقل وأقرب من بعضها البعض في أحياء أكثر كثافة لتوفير الحاجة إلى استخدام الطرق وبالتالي الطاقة، وبيئة خضراء حول المنزل وفي داخله.
كما ستكون البيوت من مواد معاد تدويرها أو قابلة للتدوير لأنها قابلة للتفكيك وإعادة استخدام موادها. استخدام التدفئة عبر الكهرباء المنتجة من الماء أو اعتماد المياه الجوفية الساخنة، واستخدام الدعائم الخشبية والتقليل او الاستغناء عن الباطون المسلح.
monafayad@hotmail.com