هذا المقال بمناسبة الذكرى السنوية الـ54 للهزيمة النكراء للجيوش العربية الثلاثة (مصر وسوريا والأردن) في 5 يونيو 1967، والتي لم يخفف من وقعها أن أطلقنا عليها إسم الدلع، « النكسة »! كما أننا أطلقنا إسم دلع آخر هو « النكبة » على هزيمة عام 1948، وفيها قامت “العصابات الصهيونية” بهزيمة سبعة جيوش عربية!
والحقيقة أن إطلاق إسم دلع على الهزائم العربية أمر مقبول نوعا ما لتخفيف وقع الصدمة النفسية على الجيوش والشعوب العربية! أما تحويل بعض هزائمنا إلى انتصارات، فهذا أمر يرقى إلى الكوميديا السوداء!
مثلما حوّل عبد الناصر هزيمة 1956 إلى انتصار على إسرائيل وإنجلترا وفرنسا، وقال في خطابه الشهير بعد نهاية حرب السويس: « لقد قمنا بتحويل دول من الدرجة الأولى إلى دول من الدرجة الثانية، ودول من الدرجة الثالثة (يقصد إنجلترا وفرنسا وإسرائيل) ». ونسي أو تناسى أن إسرائيل قامت باكتساح كل سيناء واحتلالها خلال أيام. وقامت إنجلترا وفرنسا باحتلال مدن قناة السويس، ولولا التدخل الأمريكي والروسي في هذا الوقت لما انسحبت الدول الثلاث.
…
والإنتصار بالإنتصار يُذكر! نذكر إنتصارات حزب الله الإلهية على إسرائيل عام 2000 وعام 2006، ونذكر إنتصارات حماس المتكررة على إسرائيل وآخرها في مايو 2021.
المشكلة الوحيدة في الإنتصارات العربية المتكررة، ليس تسميتها “انتصارات” ولكن في الأعراض الجانبية « البسيطة »، مثل آلاف الضحايا من الجانب العربي! وتخفيفا على أهاليهم أطلقنا عليهم لفظ الشهداء! وبعضهم شهداء بالفعل، ولكن الأغلبية قتلوا ظلما وعدوانا وتمت التضحية بهم بواسطة حزب الله وحماس وحسن أولئك رفيقا. يعني “عاوزين إنتصار ببلاش” يجب أن نفقد بعض الشهداء ولا يهم عددهم، ويجب أيضا حدوث تدمير شديد في الممتلكات. وهذه هي طبيعة الإنتصارات، وخاصة “الإنتصارات الإلهية”! أما لماذا لم نكتسب أرضا من إسرائيل أو لماذا لم نحرر القدس أو يافا، ولماذا عدد ضحايانا أضعاف مضاعفة ضحايا إسرائيل، فهذه تفاصيل فنية بسيطة لا داعي للخوض في تفاصيلها للحفاظ على الروح العالية “للأمة”!
ومثلما يمرض أي إنسان (بكامل قواه العقلية)، فإن أول طريق الشفاء هو الإعتراف بأنه مريض. والخطوة الثانية ممكن أن يستشير طبيبا أو يأخذ دواء إن كان يعرف طبيعة مرضه وطريقة علاجه. أما إذا رفض المريض الإعتراف بأنه مريض، فلا رجاء من شفائه غالباً.
وأحيانا لا يكفي الإعتراف بالهزيمة، بل يجب قبولها (ولو مؤقتا) حفاظا على الأرواح والممتلكات والتي هي أغلى من أي إنتصار وأهم من عار أي هزيمة.
فعل سبيل المثال بعد أن ألقت أمريكا القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناجازاكي في اليابان لإجبار اليابان على الإستسلام، كان عدد كبير من العسكريين اليابانيين يفضلون الإنتحار والموت على قبول الهزيمة ووقف الحرب ضد أمريكا. ولكن إمبراطور اليابان في ذلك الوقت، بحكمته السياسية، رأي أن حياة المواطن الياباني أثمن كثيرا من أي حرب ومن أي إنتصار، ووافق على القبول بالهزيمة ووقعت اليابان وثيقة الإستسلام بدون قيد أو شرط, وكان هذا أقسى وأصعب قرار يتخذه حاكم أو زعيم أو إمبراطور. ولكنه قرار يحتاج إلى شجاعة قصوى وحكمة عظيمة، والتاريخ دائما يذكر لإمبراطور اليابان أنه أنقذ آلاف الضحايا بقبوله الهزيمة، ولم يتهمه أي أحد بالجبن سوى بعض الجنرالات اليابانيين الذين لم يكن لديهم مانع بإستمرار الحرب حتى آخر ياباني. وما حدث هو العكس، فالتاريخ وصم ما فعله الرئيس ترومان بالأمر بإلقاء القنبلتين الذرتين على اليابان بأنه فعل جبان وغير إنساني. وحتى الآن (وإلى أن تعتذر أمريكا عن ذلك) يعتبر هذا العمل وصمة عار في التاريخ الأمريكي الحديث.
وبعد أن قبلت اليابان الهزيمة، لم تجلس تندب حظها وتلوم أمريكا على تخلفها وعلى إنهيارها، ولكنها خرجت من الحرب أقوى مما كانت. وقامت بغزو أمريكا ليس بالطائرات أو الصواريخ، ولكنها غزتها بمنتجاتها المتميزة جودة وسعرا. حتى أن إنتشار ماركات مثل سوني وباناسونيك وتوشيبا وغيرها في أمريكا أجبر معظم مصانع الإلكترونيات في أمريكا على إغلاق أبوابها. والآن تجد أن أكثر من ثلث السيارات التي تجري على طرقات أمريكا هي سيارات يابانية. ليس هذا فحسب، فقد ساعدت شركات السيارات اليابانية بل وأجبرت شركات السيارات الأمريكية على تحسين جودتها وكفاءتها لكي تستمر في منافسة السيارات اليابانية.
وأحقاقا للحق فإن عبد الناصر أعترف بهزيمة 5 يونيو 1967 بعدها بأربعة أيام فقط، عندما أعلن على التليفزيون رغبته في التنحي عن منصبه. ولكن المصريين رفضوا تنحيه عن منصبه، وعاد إلى منصبه يوم 10 يونيو وسط فرح شعبي غامر وكأن شيئا لم يكن!
وإحقاقا للحق أيضا فإن عبد الناصر بعد اعترافه بالهزيمة لم يقبلها ولكنه بدأ في إعادة بناء الجيش المصري. واستكمل المشوار بعده الرئيس السادات حتى فاجأ إسرائيل والعالم بعبور قناة السويس يوم 6 أكتوبر 1973. وأثناء حرب أكتوبر إعترف السادات بقوة إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل وأعلن صراحة أنه يستطيع محاربة إسرائيل ولكنه لا يستطيع محاربة أمريكا! وكان هذا إعترافا شجاعا من السادات قاده إلى زيارة اسرائيل وتوقيع معاهدة سلام معها (كلّفته حياته).
ولقد أعترفت مؤخرا دول عربية كثيرة بقوة إسرائيل (وأمريكا من ورائها) وأنه لا جدوى من محاربتها. حدث هذا في ظل صراخ إعلامي من تجار القضية الفلسطينية بضرورة القضاء على “الكيان الصهيوني”، بل ومقاطعة بل ومعاقبة كل المنهزمين ومروجي التطبيع والمستسلمين.
وما لم تعترف حماس وحزب الله وغيرها من الميليشيات التي تقتات على جثث الضحايا الفلسطينيين بقوة إسرائيل ومن ورائها أمريكا، فلا أمل لا في السلام، ولا في التقدم! بل سوف نرى المزيد من « الإنتصارات الإلهية » القادمة على أنقاض مزيد من البيوت المنهارة فوق رؤوس أصحابها الأبرياء!!