Grotesque..!!

0

ربما لا توجد في العربية مفردة بعينها تختزل المشهد. شخصياً، لم أعثر على المفردة المناسبة، بينما واظبت المفردة الإنكليزية على الحضور في الذهن، كلما تكرر المشهد على شاشة التلفزيون. المفردة هي grotesque أما المشهد المقصود فيتمثل في عدد من الجنود السوريين، بكامل العدة والعتاد، وقد تحلقوا حول جثة شخص يرتدي ملابس مدنية، وأطلقوا عقيرتهم بالغناء: شبيحة للأبد لأجل عيونك يا أسد.

في البداية نسمع الهتاف، ثم نرى الجنود، وبعد هنيهة نرى الجثة على ظهرها مرفوعة على ما يشبه سطحاً مرتفعاً، ربما كان ظهر شاحنة، أو حتى بسطة لبيع الخضار، الجثة منفرجة الساقين، ومفتوحة الذراعين.

للعين ذاكرة سينمائية تعيد المشهد إلى سلالة مشاهد المسيح على الصليب (آلام يسوع) وإلى مشاهد الصيّادين في الغابة الأفريقية، وقد تحلقوا حول جثة الطريدة، أو إلى مشاهد جنود حول جثث ضحاياهم في الحرب. نحن، في زمن السينما والتلفزيون والإنترنت والمطبوعات، نفكر بالصور، والصور (كما الأفكار) وإن كانت لا تحصى، إلا أنها تنتمي إلى سلالات قليل العدد.

فلنعد إلى المفردة الإنكليزية سالفة الذكر، فهي تنطوي على دلالات مختلفة من بينها: العجيب، والغريب، والشاذ، والفنتازي، والبشع، والعبثي. وغالباً ما تجتمع هذه الدلالات للتعبير عن النفور والاشمئزاز.

في مشهد الشبيحة كل ما يبرر النفور والاشمئزاز. بيد أن هذا ليس لب الموضوع. اللب في مكان آخر. فلنبحث عنه: فلو قال لنا شخص ما إن هذا المشهد مُفبرك لصدقناه. ومن الصعب، بالفعل، تخيّل أن شخصاً يريد تشويه نظام آل الأسد، والسخرية منه، يمكن أن تجنح به وضاعة السخرية والتشويه إلى ما هو أبعد من ذلك.

ولكن ماذا إذا كان المشهد صحيحاً؟

التدليل على صحة المشهد لا يُستمد منه، ولا يعتمد عليه. فلنبحث عنه في مكان آخر، طالما أنه ليس أكثر من وسيلة إيضاح. ولا يحتاج المرء، هنا، إلى أكثر من حقيقة أن أعمال القتل في سورية دخلت عامها الثاني، وأن منظمات الأمم المتحدة تقدّر عدد القتلى والمعتقلين واللاجئين والمفقودين بعشرات الآلاف، وأن عشرات الآلاف هؤلاء (والرقم مرشح يومياً للزيادة) أصبحوا عشرات الآلاف في صراع تُستخدم فيه الطائرات، والدبابات، والمدفعية، وراجمات الصواريخ، وناقلات الجند، والقوات الخاصة، وقوات الحرس الجمهوري، وأجهزة الأمن، والميليشيات.

الدولة ـ مطلق دولة ـ هي التي تملك الطائرات، والدبابات، والمدفعية، وراجمات الصواريخ، وناقلات الجند، والقوات الخاصة، وقوات الحرس الجمهوري، وأجهزة الأمن، والميليشيات (حتى وإن تعددت وتغيّرت التسميات).

كل هذه الأسلحة والقوى هي ما تُطلق عليه علوم السياسة أدوات العنف. وأدوات العنف، هذه، ملكية حصرية للدولة. أما الدولة بالمعنى الحديث للكلمة فتستمد مسوّغات وشرعية امتلاكها من باب ضرورات الحفاظ على السلم الأهلي، والسيادة القومية.

واستناداً إلى هذه وتلك تُصاغ مرافعات أخلاقية، ودساتير، وذرائع أيديولوجية تختلف من مكان إلى آخر، لكنها تخدم الغرض نفسه الذي تتجلى فيه الدولة باعتبارها تجسيداً لتاريخ وهوية وآمال هذه الجماعة البشرية أو تلك. الدولة، في التحليل الأخير، أعلى مراحل الاجتماع البشري، حتى إن انتقصت العولمة من هيبتها التقليدية، وشابتها شكوك وتحفظات ما بعد حداثية في العقود الأخيرة.

وقد نشأت في القرن العشرين، وبطريقة تراكمية، بعد حروب مروّعة وتجارب في الهندسة الاجتماعية باهظة التكاليف، حساسية خاصة إزاء ترجمة الدولة ـ مطلق دولة ـ لحقها في استخدام وتوظيف أدوات العنف، إذ لم يعد هذا الحق مطلقاً، وتجلت هذه الحساسية في عدد من المعاهدات والاتفاقات الدولية، كما أصبحت جزءاً من خطاب حقوق الإنسان السائد في المنابر الدولية، والثقافة العامة، وأجهزة الإعلام.

تمفصل هذه الحساسية مع توازنات وحسابات محلية، وإقليمية، ودولية، في كل مكان من العالم، أمر مفروغ منه، لكنها تتسم بمتانة أخلاقية راسخة، ولا يمكن في جميع الأحوال دمغها بالزيف، أو التقليل من شأنها، حتى وإن لم تُترجم بطريقة متساوية في أماكن مختلفة من العالم، ولا ينبغي الاستهانة بفعاليتها وإن تكن بأثر رجعي.

وفي هذا السياق، بالذات، نعود إلى سؤال ما إذا كان المشهد صحيحاً.

ولماذا لا يكون صحيحاً حين تمارس الدولة حقها في استخدام العنف بطريقة مطلقة، وغير قابلة للتفاوض، وتتولى ترجمته على الأرض بالطائرات، والدبابات، والمدفعية، وراجمات الصواريخ، وناقلات الجند، والقوات الخاصة، وقوات الحرس الجمهوري، وأجهزة الأمن، والميليشيات، ثم تكون النتيجة عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والأسرى والمفقودين واللاجئين (وهذا الرقم مرشح يومياً للزيادة)؟ ولماذا كل هذا؟

التحليلات السياسية كلها تشحب أمام هذا الواقع، وتصبح بلا قيمة. أغنية الشبيحة، وفيها كل ما قل ودل، حول جثة منفرجة الساقين، ومفتوحة الذراعين على ظهر شاحنة، ربما، أو بسطة خضار، تقول كل شيء.

عجيب، غريب، شاذ، فنتازي، بشع، عبثي. كلها أوصاف محتملة لمشهد ينفتح على مزيد من العجب والغرابة والشذوذ، والفنتازيا، والبشاعة، والعبث، ومن حسن الحظ أن كلمة واحدة تختزل المشهد، حتى ولم تكن عربية.

Grotesque..!!
حسن خضر
ربما لا توجد في العربية مفردة بعينها تختزل المشهد. شخصياً، لم أعثر على المفردة المناسبة، بينما واظبت المفردة الإنكليزية على الحضور في الذهن، كلما تكرر المشهد على شاشة التلفزيون. المفردة هي grotesque أما المشهد المقصود فيتمثل في عدد من الجنود السوريين، بكامل العدة والعتاد، وقد تحلقوا حول جثة شخص يرتدي ملابس مدنية، وأطلقوا عقيرتهم بالغناء: شبيحة للأبد لأجل عيونك يا أسد.

في البداية نسمع الهتاف، ثم نرى الجنود، وبعد هنيهة نرى الجثة على ظهرها مرفوعة على ما يشبه سطحاً مرتفعاً، ربما كان ظهر شاحنة، أو حتى بسطة لبيع الخضار، الجثة منفرجة الساقين، ومفتوحة الذراعين.

للعين ذاكرة سينمائية تعيد المشهد إلى سلالة مشاهد المسيح على الصليب (آلام يسوع) وإلى مشاهد الصيّادين في الغابة الأفريقية، وقد تحلقوا حول جثة الطريدة، أو إلى مشاهد جنود حول جثث ضحاياهم في الحرب. نحن، في زمن السينما والتلفزيون والإنترنت والمطبوعات، نفكر بالصور، والصور (كما الأفكار) وإن كانت لا تحصى، إلا أنها تنتمي إلى سلالات قليل العدد.

فلنعد إلى المفردة الإنكليزية سالفة الذكر، فهي تنطوي على دلالات مختلفة من بينها: العجيب، والغريب، والشاذ، والفنتازي، والبشع، والعبثي. وغالباً ما تجتمع هذه الدلالات للتعبير عن النفور والاشمئزاز.

في مشهد الشبيحة كل ما يبرر النفور والاشمئزاز. بيد أن هذا ليس لب الموضوع. اللب في مكان آخر. فلنبحث عنه: فلو قال لنا شخص ما إن هذا المشهد مُفبرك لصدقناه. ومن الصعب، بالفعل، تخيّل أن شخصاً يريد تشويه نظام آل الأسد، والسخرية منه، يمكن أن تجنح به وضاعة السخرية والتشويه إلى ما هو أبعد من ذلك.

ولكن ماذا إذا كان المشهد صحيحاً؟

التدليل على صحة المشهد لا يُستمد منه، ولا يعتمد عليه. فلنبحث عنه في مكان آخر، طالما أنه ليس أكثر من وسيلة إيضاح. ولا يحتاج المرء، هنا، إلى أكثر من حقيقة أن أعمال القتل في سورية دخلت عامها الثاني، وأن منظمات الأمم المتحدة تقدّر عدد القتلى والمعتقلين واللاجئين والمفقودين بعشرات الآلاف، وأن عشرات الآلاف هؤلاء (والرقم مرشح يومياً للزيادة) أصبحوا عشرات الآلاف في صراع تُستخدم فيه الطائرات، والدبابات، والمدفعية، وراجمات الصواريخ، وناقلات الجند، والقوات الخاصة، وقوات الحرس الجمهوري، وأجهزة الأمن، والميليشيات.

الدولة ـ مطلق دولة ـ هي التي تملك الطائرات، والدبابات، والمدفعية، وراجمات الصواريخ، وناقلات الجند، والقوات الخاصة، وقوات الحرس الجمهوري، وأجهزة الأمن، والميليشيات (حتى وإن تعددت وتغيّرت التسميات).

كل هذه الأسلحة والقوى هي ما تُطلق عليه علوم السياسة أدوات العنف. وأدوات العنف، هذه، ملكية حصرية للدولة. أما الدولة بالمعنى الحديث للكلمة فتستمد مسوّغات وشرعية امتلاكها من باب ضرورات الحفاظ على السلم الأهلي، والسيادة القومية.

واستناداً إلى هذه وتلك تُصاغ مرافعات أخلاقية، ودساتير، وذرائع أيديولوجية تختلف من مكان إلى آخر، لكنها تخدم الغرض نفسه الذي تتجلى فيه الدولة باعتبارها تجسيداً لتاريخ وهوية وآمال هذه الجماعة البشرية أو تلك. الدولة، في التحليل الأخير، أعلى مراحل الاجتماع البشري، حتى إن انتقصت العولمة من هيبتها التقليدية، وشابتها شكوك وتحفظات ما بعد حداثية في العقود الأخيرة.

وقد نشأت في القرن العشرين، وبطريقة تراكمية، بعد حروب مروّعة وتجارب في الهندسة الاجتماعية باهظة التكاليف، حساسية خاصة إزاء ترجمة الدولة ـ مطلق دولة ـ لحقها في استخدام وتوظيف أدوات العنف، إذ لم يعد هذا الحق مطلقاً، وتجلت هذه الحساسية في عدد من المعاهدات والاتفاقات الدولية، كما أصبحت جزءاً من خطاب حقوق الإنسان السائد في المنابر الدولية، والثقافة العامة، وأجهزة الإعلام.

تمفصل هذه الحساسية مع توازنات وحسابات محلية، وإقليمية، ودولية، في كل مكان من العالم، أمر مفروغ منه، لكنها تتسم بمتانة أخلاقية راسخة، ولا يمكن في جميع الأحوال دمغها بالزيف، أو التقليل من شأنها، حتى وإن لم تُترجم بطريقة متساوية في أماكن مختلفة من العالم، ولا ينبغي الاستهانة بفعاليتها وإن تكن بأثر رجعي.

وفي هذا السياق، بالذات، نعود إلى سؤال ما إذا كان المشهد صحيحاً.

ولماذا لا يكون صحيحاً حين تمارس الدولة حقها في استخدام العنف بطريقة مطلقة، وغير قابلة للتفاوض، وتتولى ترجمته على الأرض بالطائرات، والدبابات، والمدفعية، وراجمات الصواريخ، وناقلات الجند، والقوات الخاصة، وقوات الحرس الجمهوري، وأجهزة الأمن، والميليشيات، ثم تكون النتيجة عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والأسرى والمفقودين واللاجئين (وهذا الرقم مرشح يومياً للزيادة)؟ ولماذا كل هذا؟

التحليلات السياسية كلها تشحب أمام هذا الواقع، وتصبح بلا قيمة. أغنية الشبيحة، وفيها كل ما قل ودل، حول جثة منفرجة الساقين، ومفتوحة الذراعين على ظهر شاحنة، ربما، أو بسطة خضار، تقول كل شيء.

عجيب، غريب، شاذ، فنتازي، بشع، عبثي. كلها أوصاف محتملة لمشهد ينفتح على مزيد من العجب والغرابة والشذوذ، والفنتازيا، والبشاعة، والعبث، ومن حسن الحظ أن كلمة واحدة تختزل المشهد، حتى ولم تكن عربية.

khaderhas1@hotmail.com

كاتب فلسطيني- برلين

كاتب فلسطيني- برلين

Comments are closed.

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading