الثورة المضادة بين المنهج والمفهوم
ان المنهج العلمي والتفكير الواقعي المنظم على قواعد معرفية، وفكرية سديدة، دائما تقود مقدماته الواضحة، والمرتبة، الى نتائج، معرفية، فكرية، سياسية واقعية، تؤكد وتكرس واقع ما جاءت به الفرضيات او المقدمات المنهجية، والعلمية (الواقعية). وحين تأتي النتائج معاكسة، أو مناقضة، للمقدمات، فذلك يعني أن هناك خطلا او خللا (ما) في البنية المعرفية والفكرية للقراءة، اقله ضعف المنهج، واختلاله، أو غياب المنهجية، العلمية والواقعية في القراءة، وبالنتيجة التحليل – هذا بافتراض حسن النية. ومن هنا لا يمكن للمنهج العلمي والتفكير الموضوعي والواقعي ان تقود نتائج قراءاته إلى تقديم إجاباتين متعاكستين أو متناقضتين حول قضية صراعية سياسية، واجتماعية واحدة، كالقول بالشيء ونقيضة في الآن معا.
فعلى سبيل المثال حتى تتفق أو تقر في صراع سياسي، اجتماعي، اقتصادي دائر في بلد معين وصل فيه الصراع حده العنفي الدموي الاقصى (حرب عسكرية)، كما هو في بلادنا، ونرى أو نقرر أن احد الاطراف في هذا الصراع يجسد ويمثل حالة وواقع ثورة مضادة، وأن ثورته المضادة انقضت على تاريخ كفاح الشعب فيه، والى تدمير منجزاته ومكتسبات ثورته، فمن المنطقي والواقعي بعد ذلك ان لا يكون من قام وما يزال يقوم بالثورة المضادة على كل شيء في هذا البلد، أو ذاك، مساويا في المعنى، والمفهوم والواقع، مع أي طرف آخر كائن في قلب هذا الصراع. ولا يمكن بعدها مقاربة طرف الثورة المضادة واعتباره مساويا للطرف، أو الاطراف الاخرى التي اقام ثورته المضادة عليها، فهو بالمفهوم والواقع، إما ثورة مضادة على ثورة، ومن هنا شرعية وواجب مقاومتها، ودحرها، واستعادة الثورة، أو هو احد “طرفي الحرب” أو “اطراف الحرب”، وهنا علينا ان نعيد التفكير بقولنا انه ثورة مضادة. ومثل هذه القراءات والكتابات، في تقديرنا لا تساهم في تقديم حلول، بل هي نظريا وسياسيا، وعمليا، تعقد طريق الوصول للحل، إن لم تتحول الى جزء من المشكلة وليس مدخلا للحل.
إن المنهج العلمي، والتفكير الواقعي السليم يقول ذلك. ومن هنا اعتراضنا على المنهج، وعلى بنية القراءة الخالطة بين الحابل والنابل، أو القراءة التي تناقض نتائجها مقدماتها النظرية، والمفهومية، كمن يريد التحليق بجناحين متعاكسين أو غير متكافئين. فالثورة، والثورة المضادة، هما مثل رقصة “التانجو” لا تقوم الا بين اثنين، لتكتمل صورة “الرقصة” أو الثورة، والثورة المضادة، ومن هنا اهمية ضبط المفاهيم وتحديدها، وقراءتها ضمن سياقها المفهومي، فالمفاهيم والاصطلاحات “الثورة، والثورة المضادة” وغيرها لها معان محددة واضحة، متفق عليها، بما يجعل معانيها، ودلالاتها ثابتة، معلومة، تشير اليها، لا لسواها، فحين نقول ثورة مضادة، نعني انها ردة رجعية للوراء، فكريا، وسياسيا، واجتماعيا، وطبقيا، واقتصاديا، تعني قهقري ماضوية، نقض للثورة بما كان في الماضي، ومحاولة لاستعادته، وفي حالنا الواقعية الملموسة، تعني الثورة المضادة، استعادة لما كان “الملكية” و “الامامة” “الحق الإلهي” أو عودة لفرض التوريث للجمهورية، ولا معنى لكل ما يحصل خارج إطار هذين المعنيين. ومن هنا نؤكد على أهمية القيمة المعرفية، والفكرية، للمفاهيم، والاصطلاحات المتعارف عليها، والتي لا يصح التلاعب بها، وحين نتعاطى معها “المفاهيم” علينا متابعة خيطها المعرفي والفكري والسياسي حتى مآلاته الواقعية، النهائية لنحصل على نتيجة معرفية وفكرية وواقعية صحيحة، اما ان نرمي المصطلح والمفهوم هكذا على عواهنه دون إدراك لمعانيه ودلالاته وخطورة استخداماته بهذه الطريقة فذلك ليس خطأ بل خطر جسيم، وخطيئة، وكما قال الصديق الاستاذ خيري منصور مرة “ان الخسائر المادية يمكن تعويضها، لكن ما لا يقبل التعويض هو المفاهيم، فالمفاهيم حين تفقد دلالاتها، وحدودها تصبح معه الحقائق كلها في مكان آخر” وذلكم المنعطف في التفكير هو ما يقود البعض للحديث عن “طرفي الحرب” أو “اطراف الحرب”.
ان البعض يتعاطى مع المفاهيم، والمصطلحات، والافكار دون إدراك، لمعانيها، ومقاصدها، ودلالاتها، السياسية، والواقعية، ومثل ذلك التعاطي مع المفاهيم انما يدل على مدى ضعف الاحساس بالمسؤولية تجاه المعرفة، والفكرة، والكلمة، والأنكى ضعف المسؤولية السياسية والوطنية تجاه ما يجري. وهو أمر يترك اثاره السلبية على بنية المعرفة، والفكر، والواقع معا.
والمفارقة اليوم ان الثورة المضادة تعلن عن نفسها دون مواربة، أو التباس، أو تقية، أو مخاتلة، في كل ما تدبجه من خطاب، وفي واقع الممارسة، في معاندة صارخة لحركة التاريخ أي في شروط عصر سياسي، وتاريخي مغاير، تبدلت أو تعدلت فيه الايديولوجيات، والأفكار، بمثل ما تغيرت فيه موازين القوى السياسية، والاجتماعية الداخلية، وموازين القوى الاقليمية، والدولية، شرط ذاتي وموضوعي، وتاريخي جديد، دخل فيه الشعب في اليمن ولأول مرة في التاريخ اليمني كله، الى قلب السياسة، ودخل بكليته الى الشارع مشاركا في ما يحصل، وتقلصت فيه المسافة بين الشعب، والشارع، (خرج من القمقم للمرة الثانية بفعل ثورة الشباب والشعب) داخلا الى معارك الفعل السياسي كطرف مشارك، وفاعل، ومؤثر، وهو ما لم يحسب حسابه البعض بصورة واقعية وهو يقرأ ظاهرة المقاومة الشعبية، وبقى يتحرك، ويدير صراعاته، و (حروبه) ضمن تحالفات القوة المحدودة، والمؤقتة، ودون إعتبار لجملة التبدلات والتحولات في الداخل، والخارج وهنا تكمن مشكلته وازمته في ادارة السياسة، والواقع.
الثورة، والثورة المضادة في قلب الثورتين اليمنيتين (سبتمبر واكتوبر):
اسمحوا لي ان احيد قليلا عن العنوان، بالتركيز على ثورة 26سبتمبر 1962م -لاسباب موضوعية، وبحثية، وتاريخية، ولا صله لها برأي، وإرادة الكاتب – ذلك ان ثورة 26 سبتمبر 1962م تجلت فيها بصورة واضحة، وعميقة، حقيقة، وواقع جدل الثورة، والثورة المضادة، كأبرز ما يكون الصراع في ما بينهما، حيث عبرت فيه تكتلات، واصطفافات الثورة، والثورة المضادة، عن نفسها، منذ اللحظات الاولى، او الاشهر الاولى لقيام الثورة، حيث اتخذ الصراع، شكل ومضمون صراع سياسي حول قيادة الثورة، وطبيعة القيادة الجمهورية، والمهمات السياسية الاجتماعية للثورة، والاهم كذلك حول السلطة، والاهداف القريبة، والبعيدة للثورة – والحديث حول ذلك يطول – وسأحاول ابراز ملامح، وابعاد، ووقائع هذا الصراع بقدر ما تسمح به حدود هذه القراءة الموجزة، وفي تقديري أن لا خلاف حول أن من فكر، واعد، ونظم بصورة سياسية، وتنظيمية، وعملية لقضية الثورة، انما هم قيادة تنظيم الضباط الاحرار، وجلهم من الشباب اصحاب الرتب العسكرية الصغيرة، الذين سعوا في ديسمبر 1961م إلى تشكيل نواة وقاعدة التنظيم العسكري الثوري الذي قاد الانقلاب على الامامة، بإقامة النظام الجمهوري. ومن انهم تواصلوا مع رموز سياسية، وعسكرية، وثقافية، ومدنية متنوعة في كل من (صنعاء، تعز، الحديدة)، عسكريين كبار، ومثقفين، وسياسيين شباب، وبقايا قيادة الاحرار الدستوريين، وهذا الخليط السياسي، الاجتماعي غير المتجانس، كان بدرجة او بأخرى، حاضرا في قلب الثورة ، وتوسع هذا الخليط اكثر بعد قيام الثورة بالتحاق مجاميع مشيخية قبلية الى قوى الثورة، وفي مسارها، ومسار تشكل السلطة والقيادة الجمهورية، انتقل ذلك التباين أو عدم التجانس الى قمة القيادة الجمهورية الوليدة، كان الاجماع لدى قطاع واسع منهم ينحصر في اسقاط حكم الامامة (السلالة)، دون تفكير سياسي واضح للمهمات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، لما بعد قيام الثورة، واعلان الجمهورية، حيث تفجرت جبهات قتال عسكرية واسعة – اكثر من اربعين جبهة – لمقاومة حشود وجحافل الامامة، والمشايخ الموالين لهم، وحلفائهم الخارجيين (قوى رجعية عربية، واستعمارية) والذي ترافق مع الخطوات الاولى لبداية تشكل مؤسسات، وادارات بنية السلطة، والدولة الجمهورية الوليدة، حيث تحرك معظم القيادات العسكرية في تنظيم الضباط الاحرار، الى جبهات القتال، وعلى رأسهم قائد تنظيم الضباط الاحرار الشهيد على عبدالمغني وآخرين وتفرغ الآخرون، أو انصب همهم لابتلاع السلطة، والمواقع المختلفة في الدولة الجديدة، (…) ذهب الثوار للدفاع عن الثورة، والجمهورية، دون مبالاة أو اهتمام بقضية السلطة وغنائمها، وهو ما يعكس حالة المثالية الثورية لديهم، – وهي قضية أشرت اليها وأثرتها في بعض كتبي عن ذلك – في الوقت الذي استحوذ هم السلطة على رموز الفئات السياسية، والاجتماعية التقليدية، التي التحقت بالثورة بعد قيامها – لحسابات ذاتية بهم – وهذه واحدة من اشكالات قيادة تنظيم الضباط الاحرار، وعلاقتهم الرومانسية الثورية بالثورة، وبقضية بناء النظام الجمهوري، والدولة الجديدة في مسارها اللاحق، الذي هيمن عليه الرموز السياسية الاجتماعية التقليدية – تدريجيا – خاصة بعد اهمال الضباط الشباب لدور التنظيم العسكري في الثورة بعد قيامها مباشرة، – وهي قضية بحاجة الى بحث موضوعي مستقل – وعدم تركيزهم على متابعة المهمات والاجراءات السياسية، والاجتماعية، للثورة الوليدة، وبقي الزعيم، والرئيس السلال، وحيدا في قلب المعركة السياسية، والعسكرية الواسعة، (في واقع دولة تبنى من الصفر، ودون توافر ادنى شروط اقتصادية لقيام دولة)، ومعه المكونات السياسية الثورية الحديثة، والوجود المصري السياسي، والعسكري الداعم للثورة، ولخطها القومي التحرري.
وفي سياق الدفاع عن الثورة، وتشكيل البنية الاولية لسلطة القيادة الجمهورية، برزت تعارضات سياسية جدية، لها علاقة بدور القوى السياسية الحديثة – انظر كتاب “خمسون عاما في الرمال المتحركة” للأستاذ محسن العيني – وخلافات حول طبيعة ومضمون السلطة، حول العلاقة مع مصر عبدالناصر ودورها السياسي، والعسكري، فلم يكن جميع من اشتركوا، او ساعدوا بعد قيام الثورة، في مقاومة الحكم الامامي، مع قضية الثورة والتغيير بآفاقه السياسية والاجتماع ية الديمقراطية، حيث انحصر همهم وجهودهم في اسقاط الامامة، وحقها الديني/ السلالي، في احتكار السلطة، ويمكننا القول ان حدود هذا السقف السياسي الاجتماعي (الطبقي) للتغيير عندهم، والمكتفي بحدود اصلاح رأس النظام دون تغييرة، كان يقف خلفه وعي، وسيكيولوجية، وايديولوجية تاريخية عميقة، في أنهم الأحق في وراثة الامامة، نيابة عن كل الشعب. يمكنكم العودة لقراءة رؤية الشيخ عبدالله بن حسين الاحمر حول سبب دافع مشاركته واسرته في الثورة – وهنا بدأ صراع جنيني، كامن في قلب القيادات الجمهورية حول السلطة، وقيادة الدولة الجمهورية الجديدة – الصراع والموقف من الحرس الوطني والتجنيد فيه، ودوره في سياق الثورة – وهو صراع متعدد الوجوه، تطور تدريجيا فيما بين اطراف قوى الثورة، ومن التحقوا بها، والذين كان همهم السياسي، والايديولوجي، إزالة حكم الامامة (السلالة)، ومع الابقاء على منظومة الحكم كما هي، مع احداث بعض الاصلاحات السياسية الفوقية، بما لا يتجاوز حدود قيام “الجمهورية القبلية” أو قيام “دولة اسلامية” كما اعلنها البعض في سياق معارضتهم للمضمون السياسي الثوري للسلطة، والدولة الجمهورية الجديدة، والذي اعلن عن نفسه بوضوح في منتصف الستينات مايو 1965م (مؤتمر الطائف). وهنا صعد وتعملق دور، واسم، ومكانة الرئيس السلال كقائد للخط الوطني الثوري، والقومي التحرري، خط دفاع اول عن الجمهورية والدولة الوطنية التحررية ,والذي تجسد في علاقته الاستراتيجية بمصر عبدالناصر ودورها القومي التحرري في المنطقة، وفي قلب هذا الصراع بين اتجاهات الثورة، والثورة المضادة، الرامية وراثة الامامة، واحتكار السلطة، كان البداية لتشكل المعالم السياسية الواضحة للثورة المضادة، بعد ان وصل العديد منهم الى قمة سلطة الدولة، وكانت احوال، واوضاع المجتمع المتخلف (ثقافيا وسياسا) بيئة مساندة، وداعمة لهم (بيئة حاضنة) في قلب الصراع السياسي الذي كان، الى جانب وضع العاصمة صنعاء الصعب والمعقد، المحاط بالنطاق القبلي المسلح المتذبذب بين الجمهورية، والملكية الامامية، وهو في الواقع صراع حول الخيارات السياسية والاجتماعية، لسلطة الدولة الجمهورية، صراع بين مشروعين: مشروع وطني قومي تحرري، في أبعاده السياسية، والاجتماعية، والديمقراطية، ومشروع: سياسي تقليدي اكتفى تاريخيا بإزاحة الامامة، والحلول بديلا عنها، له صلة سياسية، وايديولوجية، وتاريخية، بمشروع تحالف ثنائي الحرب الجارية بين الحوثي/ وصالح باعتباره امتداده السياسي في الزمن الراهن.
كان أول ملامح هذا الصراع السياسي، في ابعاده التاريخية، بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م قد تجسد في محاولة القوى السياسية التقليدية (ورثة الامامة) تقزيم، وتحجيم دور ومكانة الرئيس السلال، ومحاولتهم تحويله الى موظف لدى القوى السياسية الاجتماعية التقليدية (المشيخية القبلية وبقايا الامامة، وبقايا الاحرار السياسيين) – ورفضهم استمرارية تحالفه السياسي والعسكري الاستراتيجي مع مصر عبدالناصر، الداعم والمساند للخط الجمهوري الثوري، خاصة خلال سنوات 62 – 1966م، من عمر الثورة والجمهورية، الدور السياسي، والعسكري، الذي لولاه، لكانت الثورة قد استكمل حصارها، وافرغت من مضمونها، السياسي، والاجتماعي، والوطني، منذ الاشهر الاولى لقيام الثورة، وهي في تقديري الشخصي المشروع السياسي الذي تأجل عدة سنوات، حتى كان انقلاب الخامس من نوفمبر 1967م، ثم اتفاقية جدة مارس 1970م.
السلال وقضية الثورة المضادة:
مشكلة الرئيس السلال، – ومن معه – هي مشكلة اليمن السياسي المعاصر كله، وهي قضية ما تزال معاركها السياسية، والحربية مستمرة، وقائمة حتى اللحظة، في صورة الحرب الجارية. كانت قضية السلال/ الرئيس، وهو قلب القيادة الثورية للجمهورية، التي قبل بها وتجشم مصاعبها، حين رفضها البعض، لأسباب مختلفة، هو إنه ابن الشعب، ابن الطبقة الوسطى (القريبة من الفقر) والمحدودة الحجم، والضعيفة الأثر، والفعل في الواقع السياسي، والاجتماعي في ظل الامامة، والأهم هنا أنه كان النقيض السياسي، والاجتماعي، والايديولوجي، التاريخي، لكل من الامامة، والمشيخة القبلية، وشبه الاقطاع، ومن أنه يمثل ويجسد، سياسيا، وفكريا، روح وسيكيولوجية الشرائح والفئات، والطبقات الفقيرة، والمتوسطة من الفلاحين، والبرجوازية الصغيرة، وفئة العمال الناشئة، والشباب اصحاب المصلحة في التغيير، ومشكلته، أو خطيئته السياسية الكبرى، كان تحالفه الاستراتيجي، السياسي، والعسكري مع مصر حركة التحرر القومي، ومع الدول العربية التحررية القومية، وهو الموقف، والخط، والنهج، الذي تحول في رؤية، وخطاب الامامة، وجمع كبير من زعماء المشائخ، وبقايا الاحرار، والعسكريين المواليين لهم، الى تفريط بالسيادة الوطنية، وتحولت مصر الى “استعمار” و “غزو اجنبي” و “صورت ثورة سبتمبر بانها ثورة مصرية في اليمن” بعد ان صار دعم مصر لثورة 26 سبتمبر 1962م غزو، واحتلال، واستعمار، ينتهك السيادة، وينهب ويهرب ثروات البلاد، ويدمر “الذاتية الوطنية” ك ما كان يعلنها البعض صراحة في مؤتمراتهم القبلية المعارضة للنهج الثوري الجمهوري، ومن هنا، تلاقى وتقاطع مصالحهم، مع مصالح، الرجعية العربية، والقوى الاستعمارية، وهنا تكون ملامح الثورة المضادة وابعادها قد اكتملت، وهو كذلك ما يفسر دعمهم وتمويلهم مبكرا لقيام المؤتمرات القبلية المعارضة للخط الجمهوري التقدمي منذ الاشهر الاولى لقيام الثورة (مؤتمر عمران سبتمبر 1963م، مؤتمر خمر مايو 1965م، مؤتمر الطائف يوليو 1965م،…الخ)، وبذلك لم تكن الثورة المضادة نبت شيطاني، بل نتاج ذاتي وموضوعي، كان حاضرا وقائما في قلب الثورة، ثم انفصل تدريجيا عنها، في سياق الدفاع عن المضمون السياسي، والاجتماعي، للثورة، وعن خياراتها الوطنية والقومية التحررية.
كان خيار السلال – الصعب – ومعه المكونات السياسية الثورية الحديثة، والعسكريين الشباب من رموز تنظيم الضباط الاحرار – الا القلة القليلة – ومعهم اغلب قوى المجتمع والشعب الذين تقاطروا وتوافدوا الى قلب العاصمة صنعاء وغيرها من المحافظات، هو الذهاب بالثورة الى انجاز اهدافها، وتأكيد دور مصر في مساندة الثورة، وقيام الدولة الوطنية الحديثة، على قاعدة اهداف ومبادئ الثورة، في حين كانت خيارات الرموز السياسية والاجتماعية، والتقليدية، الاكتفاء بإزاحة الامامة، والحلول بديلا عنها، واحداث اصلاحات سياسية فوقيه، بدليل جملة القرارات الجمهورية التي اصدرت بعد قيام الثورة مباشرة، تحت عنف ضغطهم على السلال والقيادة الجمهورية، وتهديدهم بتفجير الموقف في اكثر من مكان، وكأن مهمة ثورة 26 سبتمبر 1962م، الوحيدة، هو القضاء على احد اوجه النظام القديم، والذي تشكل تاريخيا ضمن معادلة “ثنائية الامامة، والمشيخة القبلية” والاكتفاء بإزاحة حكم السلالة، وتسليم السلطة لقو زعماء المشيخة القبلية، وشبه الاقطاع، واعوانهم وحلفائهم من السياسيين، والعسكريين، رموز الثورة المضادة في قلب القيادة الجمهورية، وهو الصراع الذي تشكلت ملامحه السياسية الاولى مع تحويل اول مجلس لقيادة الثورة، لتشكل غالبيته من الضباط الاحرار، ومن القوى الحديثة نسبيا، والذي لم يستمر لأكثر من عشرة ايام، إلى مجلس رئاسة، وتوسعته بإضافة اكثر من اثني عشر شيخا قبليا، وعدد من رموز القوى السياسية التقليدية، بدل رموز قيادة تنظيم الضباط الاحرار، كما صدرت قرارات سياسية خطيرة تعكس التوجه الاجتماعي/ الطبقي، مكرسة مواقع حضور قوة البنية المشيخية القبلية في قيادة السلطة، والدولة والمجتمع، مع بداية اكتوبر 1962م، بعد اقل من شهر من قيام الثورة، حيث تضمن القرار اعلان تشكيل ما اسمي بمجلس الدفاع الاعلى، المكون من شيوخ الضمان، ومهمة هذا المجلس، كما في نص القرار “حماية الحدود” وبموجب هذا القرار كان اعضاء المجلس وجميعهم من كبار شيوخ القبائل، والذين حددت درجاتهم السياسية بدرجة وزير، ولهم مرتبات الوزراء، وثبت نص هذا القرار في الاعلان الدستوري مادة “10” الذي اعلن في 31 اكتوبر 1962م، كما جرى استيعاب زعماء المشايخ في الحكومة، على حساب استبعاد القوى الحديثة، بل وتشكيل وزارة لشؤون القبائل، بميزانية معتمدة في موازنة الدولة، والذي يستمر حتى اليوم.
ان جوهر الصراع في قمة القيادة الجمهورية هو صراع سياسي، اجتماعي طبقي، وهو كيف يأتي رئيسا للجمهورية، قائد، أو اسم ليحكم البلاد، من خارج “ثنائية الامامة والمشيخة القبلية” التي حكمت، وتحكمت باليمن – شمال البلاد خاصة – تاريخيا. لم يتصوروا او يستوعبوا أن يأتي رئيسا للجمهورية، من خارج هذه الصيغة والمعادلة السياسية التاريخية “الامامة، والمشيخة، والقبيلة” من خارج البطنين، ومن خارج الزعامة المشيخية لحاشد، وبكيل. وهو كذلك احد أوجه بذرة نشأة قصة، وقضية الثورة المضادة لثورة 26 سبتمبر 1962م، ومن يتابع خيط الثورة المضادة في الحرب الجارية اليوم، فانه سيجد نفسه امام ذات الاعتراض السياسي، التاريخي، يتكرر في طبعة ثانية جديدة، رفض أو اعترض على السلال في حقيقة الامر لأنه من ابناء الشعب البسطاء اصحاب الكفاءة والقدرة، والدور، وكأن المطلوب ان يحل بدلا عنه ورثة الامامة الجدد، (زعماء المشيخة القبلية، او من ينوب عنهم، في دور المحلل، او الموظف)، والرفض نفسه يتكرر مع الرئيس عبدربه، باعتباره من خارج طرفي أو اطراف دولة المركز السياسي التاريخي “المقدس”، كان مطلوب منه دور “المحلل”، ليعود انتقال الحكم “السلطة” من الفرع “المحلل” الى “الاصل” السياسي التاريخي، وهنا يتجلى كأوضح ما يكون جدل الثورة، والثورة المضادة في سيرة معموديته التاريخية.