منذ أن بدأت الحرب الأهلية في سوريا عام 2011، غادر أكثر من نصف سكان البلاد ديارهم وأصبحوا لاجئين أو مشردين داخلياً. ولفهم سبب ذلك وما يمكن فعله لعكس الوضع، علينا أن ننظر في التركيبة السكانية للبلاد بالتفصيل.
النقص السكاني
تضم سوريا حالياً حوالي 16 مليون نسمة – وهو عدد بعيد كل البعد عن التقديرات التي قامت بها الأمم المتحدة في العام 2010 حين قالت إنّ عدد سكان سوريا سيصل إلى 22.6 مليون بنهاية العام 2015. حيث تسبب تراجع عدد المواليد وزيادة عدد الوفيات (سواء تلك الناتجة عن أعمال العنف أو الطبيعية) بخفض النمو السكاني الطبيعي بمقدار النصف منذ العام 2011. وحتى إذا أضفنا اللاجئين إلى عدد السكان الحالي، يبلغ الإجمالي عندئذٍ 21.3 مليون نسمة فقط، أي أقل بـ 1.3 مليون من تقديرات ما قبل الحرب. سجّلت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين 4.2 مليون سوري حتى الآن، لكنّ هذا العدد يقلل عدد اللاجئين الفعلي بـ 20 في المائة على الأقل، حيث يرفض بعض اللاجئين التسجّل خوفاً من أن يتم إلقاء القبض عليهم وإعادتهم إلى سوريا (كما يحصل الآن في لبنان)، في حين لا يجد العديد من اللاجئين الأثرياء جدوى في التسجيل. لذا فالتقدير الأكثر واقعية لمجموع اللاجئين هو 5.3 مليون نسمة.
ويُتوقع لهذا العدد أن يرتفع بشكل حاد. ففي محافظة حلب وحدها، تسبب تصاعد الأعمال العدائية في ترك 200 ألف نسمة أخرى منازلها في الشهرين الأخيرين، فيما أقنع الهجوم الروسي وغياب الأمل بإحلال السلام على المدى القصير الكثير ممن يعيشون في مناطق تتسم بالهدوء النسبي إلى المغادرة أيضاً، وقد يحذو المزيد من السكان حذوهم في حال تطبيق الخطة الصادرة مؤخراً بقيادة ألمانيا والتي تقضي باستقبال المزيد من اللاجئين.
مناطق السيطرة
على الرغم من صعوبة إعطاء عدد دقيق للأشخاص المشردين داخلياً، تشير البيانات المتاحة إلى أنّ 6.5 مليون سوري فرّوا من مناطق العنف إلى مناطق اكثر أماناً في البلاد. ويشمل هذا العدد حوالي مليوني شخص فروا إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة حالياً من مناطق تسيطر عليها فصائل أخرى، كما وملايين الأشخاص الآخرين الذين فروا من منطقة يسيطر عليها النظام إلى أخرى بسبب القتال العنيف.
وقد خسرت المناطق التي يسيطر عليها الثوار (الشمال الغربي والجنوب وجيوب أخرى صغيرة مثل الغوطة) العدد الأكبر من الأشخاص لأنّها الأقل أماناً– حيث تعيق الغارات الروسية والتابعة للنظام الحياة الطبيعية فيها، فيما يُنشئ تواجد العديد من فصائل الثوار المختلفة حالة مستمرة من انعدام الأمن. وتبدو المنطقة التي يسيطر عليها تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) الذي أعلن قيام “الدولة الإسلامية” بنفسه أكثر أماناً، وذلك يعود بجزءٍ منه إلى أنّها تتحلى بسلطة مركزية. ومع أنّ الأقليات الدينية والسنّة غير المتدينين فرّوا من الرقة ودير الزور، لكن حلّ محلهم جهاديون أجانب وسوريون نازحون من حلب. ويميل السكان بشكل عام إلى اللجوء إلى حيث لديهم أقارب وحيث المناطق التي لا تشهد قتالًا؛ إذ إن هوية الفصيل الذي يسيطر على المنطقة ليس هامًا بالضرورة. فالمنطقة الكردية تستقطب الأكراد المشردين ولكن ليس الكثير من العرب – وهو ليس بالأمر المفاجئ نظراً إلى أنّ الفصيل الذي يسيطر على المنطقة، أي “حزب الاتحاد الديمقراطي”، يهدف إلى جعل المنطقة متجانسة عرقياً.
غالباً ما تسلّط تقارير وسائل الإعلام الرئيسة الضوء على أنّ الجيش السوري يتحكم بأقل من 17 في المائة من البلاد، فيما يتحكم تنظيم “داعش” وفقاً لها بأكثر من 50 في المائة منها. ومع ذلك، لا تراعي هذه الأرقام التي تبدو صادمة معالم البلاد الجغرافية – وتحديداً أنّ 47 في المائة من البلاد هي عبارة عن سهوب قليلة السكان. بالطبع إنّ توسيع نطاق السيطرة ليشمل بعض السهوب قد يحمل مصالح استراتيجيةً لـ”داعش”؛ فتشكل تدمر مثلاً مركزاً رئيساً للحركة يشمل موارد غاز ونفط هامة وهي تقع على الحدود مع العراق والأردن. على أي حال، يسيطر نظام الرئيس السوري بشار الأسد على الحصة الأكبر من مناطق سوريا السكانية، والمناطق المأهولة أكثر بالسكان. كما أنّ حوالي 10.1 مليون نسمة يعيشون في المنطقة التي تسيطر عليها الحكومة، أو ما يعادل 63 في المائة من إجمالي السكان المقيمين في البلاد. في حين أنّ المناطق التي تسيطر عليها الفصائل الثلاث الرئيسة الأخرى (الأكراد و”داعش” والثوار) فهي متساوية تقريباً، حيث تتضمن كل منها حوالي المليوني نسمة. باختصار، فقد انتقل النظام من السيطرة على ما يقارب 20 مليون سوري قبل الحرب إلى حوالى 10 ملايين سوري حالياً.
التطهير العرقي المحلي
إلاّ أنّ التحرّكات السكانية واسعة النطاق لم تكن مجرّد نتيجة ثانوية أسفرت عنها الحرب، بل تمثّل استراتيجيات تطهير عرقي واعية تنفذها كل من الفصائل.
ودلالة على ذلك أنّ تركيبة البلاد العرقية الطائفية لم تتغير كثيراً ككل على الرغم من فرار اللاجئين المسيحيين والسنّة العرب بأعداد غير متناسبة. فلطالما كان المسيحيون منتشرين في كافة أنحاء البلاد من دون منطقة لجوء خاصة بهم مثل حالة العلويين والدروز، ما دفع الكثير منهم إلى اللجوء إلى الخارج. أما السنّة العرب، فلأنّ التمرّد بدأ في صفوفهم، كانوا الهدف الأول لقمع النظام وغاراته (على الرغم من أنّ بعض العشائر السنّية تدعم بشار الأسد وقد بقيت بأمان في المنطقة التي تسيطر عليها الحكومة). بشكل عام، فإنّ تركيبة سوريا السكانية الحالية مقسمة بين 22 في المائة من الأقليات الدينية و16 في المائة من الأكراد و61 في المائة من السنة العرب – وبتعبير آخر، لا يختلف أمرها كثيراً عن التركيبة التي كانت سائدة قبل الحرب.
بالطبع إنّ هذه الأرقام قد تتغير في الأشهر القادمة، وبالأخص إذا أنشأ “حزب الاتحاد الديمقراطي” منطقة متواصلة خاضعة للسيطرة الكردية على طول الحدود مع تركيا عبر الاستيلاء على الأراضي بين أعزاز وجرابلس، علماً أنّ أي خطوة من هذا القبيل لربط جيب عفرين ذي الغالبية الكردية ببقية أراضي الحزب في الشمال الشرقي (الذي يعرف بـ”روج آفا” أو كردستان السورية) قد يدفع بمئات آلاف السنّة العرب إلى الفرار. وفي هذا الوقت، من المرجّح أن يسفر توسيع الجهود المبذولة للقضاء على “داعش” عن حرب سنية داخلية بين العشائر التي تدعم الجماعة الإرهابية وغيرها من الفصائل، ما سيؤدي إلى المزيد من تدفق اللاجئين.
في الوقت الراهن، لا تظهر أعداد السكان في سوريا الفصل العرقي السائد الذي بدأ يحصل في المناطق الخاضعة لسيطرة كل فصيل من الفصائل. أمّا النظام، إذ يدرك جيّدًا أنّ قاعدته العلويّة ما هي إلا أقلية قد بدأت بالانحسار، فقد أنشأ منطقة تحت سيطرته تضمّ 41 في المائة من الأقليّات الدينية، مقارنة بالعدد السائد على المستوى الوطني الذي يشير إلى 22 في المائة. من جهته يهم الجيش بالدرجة الأولى أن يحكم السيطرة على المناطق المسيحية والعلوية والدرزية والاسماعيلية والشيعية.
في المقابل، غالباً ما تدفع انتصارات الثوار الأقليات المحلية الدينية والعرقية إلى الرحيل. وتبقى منطقة جبل السماق ذات الغالبية الدرزية في محافظة إدلب الشمالية الغربية وحدها تحت سيطرة الثوار، متنعّمة بحماية سعودية خاصة مردّها الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط، حيث يتّضح أنّ الاستثناء الهش هو الذي يبرهن القاعدة. فجماعات الثوار تسيطر على أرض عربية سنية حيث الأقلية هي من التركمان السنّة الذين هم على الأرجح الأكثر عداءً لبشار الأسد.
بالمثل، تميل الأقليات الدينية كلها إلى الفرار من المناطق التي يسيطر عليها تنظيم “داعش”. وقد بقي عدد من الأكراد، نظراً إلى أنّه لا يبدو أن “داعش” يميّزهم عن غيرهم من أهل السنّة من العرب، وذلك على الأرجح لأنّهم من المؤمنين السنة أيضاً. بالتالي، فرّ عدد كبير من الأكراد غير المتدينين إلى مناطق التي يسيطر عليها “حزب الاتّحاد الديمقراطي”.
أمّا في منطقة “روج آفا” الكردية، فلا بدّ للعرب القبول بالعيش كأقليات، شأنهم شأن الأكراد في خلال حكم العرب، أو الرحيل. وقد دفع هذا الانقلاب في الأدوار بعض العرب السنّة إلى مناصرة “داعش” إذ صعب عليهم تقبّله نظراً إلى اعتيادهم السيطرة على شمال شرقي البلاد.
لا تعني سيطرة النظام على المناطق الأكثر تنوّعاً أنّ الأسد خيرًا أكثر من الثوار أو الأكراد أو تنظيم “داعش”. بل يعكس ذلك استراتيجيته السياسية. فالأسد يعلم أنّ عليه طرد ملايين العرب السنّة ليكون ميزان القوة في صالح الأقليّات التي تدعمه. كما يحتاج إلى تقسيم السنّة عبر إعادة توزيع الأراضي والبيوت التي تعود إلى اللاجئين، الأمر الذي يجعل الموالين السنّة أكثر امتناناً له ويحرّضهم على أي شخص يقرر العودة.
في المحصّلة، إنّ الصراع السوري عبارة عن حرب طائفية، والتطهير العرقي جزء لا يتجزّأ من الاستراتيجية التي تتّبعها مختلف الجهات، حتّى لو ادّعت العكس.
ماذا يعني التطهير العرقي بالنسبة إلى مستقبل سوريا
على الرغم من أنّ الكثير من اللاجئين والمتشردين سيودّون العودة إلى ديارهم عندما يحلّ السلام، إلّا أنّهم لن يتمكّنوا من فعل ذلك بسبب عرقهم و/أو انتمائهم السياسي. بالإضافة إلى ذلك، ستكون إعادة تنظيم أوضاع النازحين مسألة استراتيجية للجهات كافّة. فجهودها الرامية إلى التطهير العرقي المحلّي قد جعلت من التقسيم مسألة يصعب حلّها أكثر فأكثر. إنّ التنوّع الطائفي في زوال في عدد من المناطق السورية وعملية توحيد لون المنطقة هذه تؤدي إلى رسم حدود داخلية.
بيد أنّ التقسيم الرسمي لا يشكّل بالضرورة حلّا جيّداً، إذ يمكن أن يقود إلى صراعات جديدة، الأمر الذي شهده السودان، حيث انتهى أمر دولة جنوب السودان الجديدة بحربٍ أهليّة.
بالتالي، قد يضطر المجتمع الدولي إلى العمل على اتّفاق سوريّ يكون من جهة كاتفاق الطائف الذي فرض نوعاً من الوحدة في لبنان، واتفاقية دايتون التي ألزمت البوسنة بتقسيم عصيب بإشراف دوليّ كثيف. ستقبل الطوائف المختلفة في سوريا العيش في جمهوريّة جديدة وموحدة، ولكن ليس في الجمهورية العربية السورية التي كانت قبل الحرب. ويتّضح أنّ النظام الفدرالي هو النظام السياسي الأنسب لأنّه لا يمكن إعادة المركزية التي كانت سائدة، بغضّ النظر عن الفريق الحاكم.
فابريس بالونش، هو أستاذ مشارك ومدير الأبحاث في “جامعة ليون 2″، وزميل زائر في معهد واشنطن.