رحلت الكاتبة، وعالمة الاجتماع المغربية، فاطمة المرنيسي، يوم أمس. وهذا خبر مُحزن، فالعالم العربي يفيض بالذكور الحمقى، أما عدد النساء، من وزن المرنيسي، فقليل. والمفارقة أن مقالة اليوم كانت مُكرّسة للكتابة عن الصحافية، والناشطة المصرية، منى الطحاوي، بمناسبة صدور كتابها المعنون “أغطية للرأس وأغشية بكارة” الصادر بالإنكليزية، في نيسان (أبريل) الماضي، الذي ذكرت فيه أن المرنيسي كانت من مصادر اكتشاف وتكريس نـزعتها النسوية.
لا نعرف، بالتأكيد، عدد مَنْ تأثرن (أو تأثروا) بكتابات المرنيسي، ولكننا نعرف أن الثقافة العربية اغتنت بها، ومدينة لها، وأن في غيابها خسارة لنا. ولنقل إن ضمير الجماعة، هنا، يضم أعداداً لا حصر لها من العاملين في حقلي الثقافة والسياسة العربيين، الحالمين بمجتمعات عربية ديمقراطية وعلمانية، تُحترم فيها حقوق الإنسان، بما فيها المواطنة، والمساواة الكاملة، والمُطلقة، بين النساء والرجال. متى؟
لا أحد يعرف. أما كيف يحدث ذلك، فيحتل مكان الصدارة في اجتهادات، وتأويلات، وتفسيرات كثيرة، تتناوب لعبة التجلي والخفاء بين أضلاع الثالوث المُحرّم، المحفوف بالمخاطر، في العالم العربي: الدين، والجنس، والسياسة.
ولعل في هذا ما يأخذنا إلى كتاب الطحاوي، الذي يمثل، في الجوهر، مرافعة مفادها أن الثورة السياسية على الاستبداد تظل ناقصة، ما لم تترافق مع ثورة اجتماعية، في القلب منها حرية، وتحرر، وتحرير النساء. وهذا لن يتأتى دون ثورة جنسية تمنح النساء الحق في ملكية أجسادهن.
لم تصل الطحاوي إلى قناعة كهذه، ولم تعتنق النسوية، كأيديولوجيا كفاحية، نتيجة لقراءة الكتب، فكل ما فعلته الكتب، ومنها كتب المرنيسي، أنها صقلت تجارب شخصية، وفردية تماماً، تبلورت في أربع قارّات (آسيا، وأفريقيا، وأوروبا، وأميركا) وعالمين هما العربي والغربي.
وهذه، بالمناسبة، مسألة لا تحظى بما تستحق من اهتمام في سجالات الهوية، والخصوصية الثقافية. فالهوية في عالم النقل الجوي، والهجرة والتهجير، والتلفزيون، والإنترنت، تمتاز بالسيولة، وتعددية المصادر، ويصعب أن تكون أحادية الجانب، حتى وإن كان صاحبها قاطناً في بلدة ريفية نائية.
كانت التجربة الآسيوية هي الأكثر قسوة في حياة الطحاوي، التي انتقلت في سن المراهقة، مع أبويها، وهما طبيبان، من لندن إلى السعودية. وكان في ذلك ما يشبه الانتقال من كوكب إلى آخر، وعلى مدار ست سنوات لاحقة في تلك البلاد، تعرّضت لأشكال مختلفة من التحرّش الجنسي، ومواقف الكوميديا السوداء، واكتشفت خلالها هامشية، وهشاشة، ودونية، العيش كأنثى في مجتمع يكره النساء. وعثرت في كتابات المرنيسي، ونسويات غيرها، على ما يمنح إحساسها الأخرس بالظلم صوتاً مسموعاً، ولغة مُعبّرة.
أما التجربة الثانية، التي لا تقل دلالة عن الأولى، وإن اختلفت عنها، فكانت في مصر، الآسيوية، والأفريقية، في آن، وفي زمن ثورة يناير، عندما تعرّضت للتحرّش الجنسي والاعتداء من جانب رجال أمن، وخرجت من الحادثة بعظام مكسورة، وإدراك لحقيقة أن الثورة السياسية تظل ناقصة، ما لم تكن مترافقة مع ثورة اجتماعية في، وعلى، القيم والثقافة والتقاليد السائدة.
وعل هامش هاتين التجربتين، وكلتاهما رضيّة، بالمعنى النفسي، تحاول الطحاوي تفكيك الدلالة الاجتماعية، والسياسية، لغطاء الرأس، وذلك من خلال تجربة شخصية، أيضاً. ففي السعودية تحجّبت، وواظبت على ذلك حتى بعدما التحقت بالجامعة الأميركية في القاهرة، ثم قررت، بعد معاناة طويلة على مدار سنوات، خلع الحجاب.
لذلك، يمكن القول إن كتاب الطحاوي يقترب، في جانب، من السيرة الذاتية، ويمثل، في جانب آخر، مرافعة فكرية استعانت بالتجربة الشخصية كوسيلة إيضاح. وفي هذا الصدد، فإن في حماسة الطحاوي وشجاعتها، وكلتاهما أوصلتها إلى وصم الثقافة العربية السائدة بكراهية النساء، ما يستدعي الثناء.
ومع ذلك، لن يتمكن أحد من تفسير الكراهية العميقة للنساء (وهي الوجه الظاهر للذعر من احتمال تحررهن وتحريرهن)، في العالم العربي خارج، ودون تحليل وتفكيك، مفهوم السلطة، بالمعنى السياسي. وهي، في الواقع، الصمغ اللاحم لأضلاع الثالوث المُحرّم، وأطرافه المُدببة الشائكة.
وفي هذا، أيضاً، ما يعيدنا إلى المرنيسي، التي حاولت بالكتابة والبحث كسر احتكار الذكور للروايتين التاريخية والدينية أولاً، وإعادة الاعتبار للأنثوي في تاريخ المغرب والعرب والمسلمين ثانياً، وإنشاء علاقات سياسية وسوسيولوجية بين أضلاع الثالوث المُحرّم ثالثاً.
كان الإسلام الصوفي، الذي ساد في مجتمعات عربية كثيرة، محط اهتمامها، في الآونة الأخيرة، باعتباره من تجليات وتسويات التفاوض، في الحياة والسوق، بين الديني والدنيوي على مدار قرون. وإلى هذا كله نضيف الفعالية الاجتماعية، وانخراطها الكفاحي بشجاعة، وكفاءة، ومثابرة، في قضايا المساواة، وحقوق النساء، والعدالة الاجتماعية.
رحلت المرنيسي، في ألمانيا، يوم أمس، بعيداً عن بلادها المغرب. وأشعر اليوم، كما في أوقات مضت، بامتياز شخصي نجم عن نقاشات جمعتنا في أمسيات برلينية، تجلت فيها معارف فاطمة الواسعة، وجدارتها الثقافية والإنسانية، علاوة على حس بالمفارقات يشبه حس الفكاهة لدى البريطانيين: متعدد الطبقات، لاذع في التحليل الأخير، وإن بدا للوهلة الأولى خفيفاً ورهيفاً.
وربما يليق بها، اليوم، أن يتكلّم أحد في يوم رحيلها عن كتاب تقول صاحبته إنها عثرت في كتابات المرنيسي على ما مكّنها من اكتشاف نبرة الحرية في صوتها، وتحدي سلطة الخرس، المفروضة بقوة الحرس، على جسدها، ولسانها، وقلبها، ودماغها.
يليق بفاطمة المرنيسي أن نتكلّم عن خسارة لحقت بالعرب، يوم رحيلها، ويليق بها الكلام عمّن أنجبت من النساء، وكم حررت من الأصوات، وأطلقت من الأماني في سماء عربية شاحبة، وضوء عليل، على أرض تميل.
khaderhas1@hotmail.com