توجه مواطنو تركيا يوم أمس الأحد 1 نوفمبر إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في انتخابات برلمانية مبكرة دعا إليها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد فشل مشاورات تشكيل ائتلاف حكومي عقب الانتخابات التي جرت في 7 يونيو.
الانتخابات التي خاضها هذه المرة عشرون حزباً سياسياً إضافة إلى شخصيات مستقلة أسفرت عن فوز حزب العدالة والتنمية الإسلامي الذي يقوده أحمد داوود أوغلو (خلفاً لأردوغان) بالأغلبية مخيباً بذلك توقعات شركات ومراكز استطلاع الرأي التركية, إذ حقق الحزب نسبة 49.5% ما يعني أغلبية برلمانية بواقع 317 مقعداً في البرلمان الجديد, الأمر الذي يؤهله لتشكيل حكومة بمفرده دون الحاجة إلى الدخول في بازار سياسي مع الأحزاب الأخرى.
في حين شهدت انتخابات يوم أمس تقدماً طفيفاً لحزب الشعب الجمهوري, إذ حقق نسبة 25.3% ونال بذلك 134 مقعداً في البرلمان، فيما تراجع كل من “حزب الشعوب الديمقراطية” و”حزب الحركة القومية” اللذين كانا على وشك السقوط تحت حاجز 10 % الانتخابي بحسب الدستور التركي النافذ.
حين إجراء المقارنة بين نتائج انتخابات 7 يونيو والانتخابات المبكرة الحالية (1 نوفمبر) نلاحظ أن الماكينة الدعائية للحزب الحاكم عملت بشكل ملفت، مستغلة الظروف الأمنية والسياسية والاقتصادية. بمعنى آخر، فإن الحزب يعرف من أين تؤكل كتف الناخب التركي، إذ تقدم الحزب بـ 9 نقاط مقارنة مع انتخابات 7 يونيو ( 49.5% حالياً و 40.9% في يونيو) بذلك رفع عدد مقاعده من 258 إلى 317 مقعداً.
إزاء هذا الصعود من الحزب الحاكم راوح غريمُه التقليدي حزب الشعب الجمهوري في مكانه، كعادته في كل عملية انتخابية في السنوات الأخيرة. إذ بقي الحزب في حدود 25 % ولكن مع تقدم طفيف (25.3% حالياً و25 % في يونيو) واستطاع الحزب بهذا التقدم الطفيف جداً رفع عدد مقاعده من 132 إلى 134، وقد كسب أمس 600 ألف صوت قياساً إلى انتخابات يونيو.
الخاسران الوحيدان بين أحزاب المقدمة الأربعة هما “حزب الشعوب الديمقراطية” و”حزب الحركة القومية”, إذ عاش قادة وجماهير الحزبين لحظات قلق حتى لحظات فرز نصف الأصوات، مع مخاوف جدية من الانحدار إلى ما دون عتبة الـ 10% الدستورية المؤهلة لدخول البرلمان.
صحيح أن الحزبين تجاوزا الحاجز المئوي بشق الأنفس لكنهما شكلا تراجعاً ملحوظاً عن نتائجهما في يونيو وبالتالي يخلق التراجع قلقاً لدى كتلتيهما الجماهيريتين. إذ نال “حزب الحركة القومية” نسبة 11.9% متراجعاً بنحو 5 نقاط (16.3% في يونيو)، وفقد بذلك 40 مقعداً (في يونيو كان لديه 80 مقعداً). فيما نال “حزب الشعوب الديمقراطية” 10.8% ما يمنحه 59 مقعداً في البرلمان الجديد، فيما كانت نسبته المئوية في انتخابات يونيو 13.1% و80 مقعداً.
إجمالاً فإن “حزب الحركة القومية” فقدَ نحو مليون و800 ألف صوت، فيما فقَدَ “حزب الشعوب الديمقراطية” قرابة مليون صوت/ ومما لا شك فيه أن “حزب العدالة والتنمية” هو الرابح الوحيد لتلك الأصوات! إذ استطاع تجريد الأحزاب الثلاثة من عدد من معاقلها التقليدية، واستطاع رفع نسبة وأعداد المصوتين له في معاقل أخرى لتلك الأحزاب.
ما الذي جرى منذ يونيو 2015؟!.
تمكن “حزب العدالة والتنمية” الحاكم من التعامل الجدي والديناميكي مع الاستحقاق الانتخابي المبكر الذي كان يخطط له. وقد كان بادياً للعيان منذ صدور نتائج انتخابات يونيو أن الحزب ينحو أكثر باتجاه تنظيم انتخابات مبكرة. ونتذكر في هذا السياق تغريدات لـ”فؤاد عوني” على تويتر في شهري يونيو ويوليو تتحدث عن ذلك من خلال عدة خطوات ستلجأ إليها حكومة داوود أوغلو مدعومة بالرئيس التركي أردوغان وأجهزة أخرى في الدولة. وقد تحققت الخطوات التي توقعها “فؤاد عوني” حرفياً. إذ لم يكن “حزب العدالة والتنمية” جاداً خلال المشاورات لتشكيل حكومة ائتلافية، وكانت عينه على انتخابات مبكرة مع كل المخاطر المحتملة كنتيجة لذلك. وشنت الحكومة حرباً على تنظيم “داعش” و”حزب العمال الكردستاني”، وشهدت تركيا تفجيرات إرهابية، وحملات أمنية ضد التنظيم وحزب “ب ك ك” وضد بعض المنابر الإعلامية الموالية للداعية الإسلامي “فتح الله غولن”. وقد جاء استثمار العدالة والتنمية للملفين الأمني والسياسي مترافقاً مع تركيزه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة على الجانب الاقتصادي. وقد نجح في قواعد اللعبة التي وضعها بعد 7 يونيو.
وإذا كان الرئيس التركي أردوغان قد أشاد اليوم بالنضوج الديمقراطي في تركيا على أنه السبب الرئيسي في فوز حزبه السابق بالانتخابات، إلا أن المراقب للوضع التركي يشك في ذلك.
على الضفة الأخرى، فشل “حزب الشعوب الديمقراطية” في رسم معالم شخصيته السياسية الخاصة. إذ أثبت أن مديره الفعلي هو “جبل قنديل” (المعقل الأهم لحزب العمال الكردستاني)، وتبين للمصوّتين له في انتخابات يونيو أن الحزب مجرد واجهة سياسية لا غير لحزب العمال الكردستاني. وأن قرار الحرب والسلم بيد مقاتلي وقادة حزب العمال الكردستاني، وليس بيد صلاح الدين دميرتاش وقادة “حزب الشعوب الديمقراطية”. كما أن التشنج والغرور الاستعراضي لرئيس الحزب وقياداته أسهم في تقليص أسهم الحزب في الشارع.
نسيَ “ُحزب الشعوب الديمقراطية” في يونيو أن الأصوات التي مكنته من اجتياز حاجز 10 % راهنت عليه من أجل لعب دور فاعل، سيما في ظل التسوية السياسية – الأمنية بين حزب العمال الكردستاني والحكومة التركية، لكونهم صوّتوا من أجل استمرار الأمن والسلام والاستقرار. وكان جمهور الحزب (أقله مليون ناخب) يتوقع دخول الحزب في شراكة ائتلافية مع “العدالة والتنمية”. لكن هذا لم يحدث، إذ بدا الحزب أمام الناخبين مهزوزاً وضعيفاً وعديم الخبرة في اللعبة السياسية، إذ أن الثوروية مع حقل شعاراتها شيء، وفضاء السياسة شيء آخر مختلف كلياً.
نجح “حزب الشعوب” في انتخابات يونيو لأن خطابه حول (هوية الحزب التركية) كان مطمئناً لشرائح في المجتمع التركي. لكن عودة أجواء الحرب والعمليات العسكرية في عدة مناطق بكردستان تركيا غيّر الأمور إلى غير صالح الحزب، كما أن غياب أي برنامج اقتصادي للحزب لعب دوراً أيضاً في عزوف ملايين الناخبين عن التصويت له والتوجه إلى التصويت لصالح “حزب العدالة والتنمية”.
العامل الأبرز الذي يقف عقبة أمام الأحزاب الكردية في تركيا هو خوف المواطنين الكرد من تدهور الأوضاع في مناطقهم. ولعل ممارسات الحكومات التركية المتعاقبة طيلة قرن أسهمت في تجريد ملايين الكرد من الهوية القومية ومشاعر الانتماء. لهذا نجد ملايين الكرد يصوتون لحزب العدالة والتنمية بدلاً من حزب الشعوب الديمقراطية”. وكانوا يصوتون في انتخابات سابقة لصالح أحزاب أخرى. ومرد ذلك إلى الخوف من الدولة، وتغليبهم العامل الديني على أي اعتبار آخر.
مع نجاح “حزب العدالة والتنمية” في نيل الأغلبية كما في انتخابات 2011 وهو الأمر الذي يتكرر منذ 2002 ومع إمكانية تشكيله حكومة جديدة منفرداً، ودخول “حزب الشعوب الديمقراطية” إلى البرلمان وإن بشكل خجول، فإن الأنظار تتجه إلى هدوء الأوضاع وعودة الاستقرار إلى البلاد، وإعادة تفعيل التسوية بين حزب العمال الكردستاني والحكومة التركية الجديدة.
mbismail2@gmail.com
محامي وكاتب من كوباني في سوريا