يقول المسئولون الصينيون والماليزيون أن بلديهما يرتبطان بعلاقات خاصة، بل يقول بعضهم أن المثل الماليزي القائل “الماء المتدفق لا يمكن قطعه” ينطبق عليها. لكن هذه العلاقات الخاصة لم تمنع ظهور الهواجس والشكوك على سطحها من وقت إلى آخر، مما جعلها في أغلب الحالات متسمة بالحذر، وخصوصا وأننا نتحدث عن دولتين مختلفتين حجما ونظاما وقوة وطموحا وتأثيرا. فالصين قوة آسيوية كبرى لها طموحاتها في منطقة جنوب شرق آسيا، وكان لها في الحقبة الماوية مشاريع للهيمنة وتغيير الأنظمة على نحو ما تجسد في تدخلها المريب في أندونيسيا في منتصف الستينات والذي انتهى بمجازر دموية وسقوط نظام الرئيس سوكارنو، ناهيك عن دعمها للحزب الشيوعي الماليزي في السنوات المبكرة من الحرب الباردة. أما ماليزيا فهي قوة آسيوية متوسطة الحجم، ودولة متعددة الإثنيات والثقافات يشكل فيها ذوو العرق الصيني نسبة معتبرة من سكانها. وهؤلاء ــ بسبب ثقافتهم المختلفة عن ثقافة أبناء الملايو المسلمين الذين يمثلون أغلبية السكان ــ كثيرا ما تتصادم أجنداتهم ورؤاهم مع أجندات أبناء الملايو، بل كثيرا ما يشتكون من التمييز ضدهم من قبل الحكومات الماليزية المتعاقبة التي يقودها منذ استقلال البلاد في عام 1957 حزب المنظمة الوطنية المتحدة لأبناء الملايو.
ولا ننسى في هذا السياق انّ أحد أسباب خروج سنغافورة في عام 1965 من الاتحاد الماليزي بعد عام من إنضمامها إليه هو تخوفها من سطوة الحزب الأخير ووقوفه في صف أبناء الملايو المسلمين على حساب المكونات العرقية والثقافية الأخرى كالصينية والهندية.
ومناسبة هذا الحديث هي الأخبار والشائعات التي تم تداولها في ماليزيا منذ سبتمبر الماضي حول محاولات من قبل بكين لإستغلال علاقاتها الخاصة مع كوالالمبور في ليّ ذراع الأخيرة بطريقة تجبرها على الإلتزام ببعض التعهدات التي تصب في صالح الماليزيين من ذوي العرق الصيني. وقد زادت وتيرة وحدة هذه الشائعات مع زيارة قام بها السفير الصيني لدى ماليزيا “هوانغ هويكانغ” إلى شارع ” بيتالينغ” التجاري في كوالالمبور والذي يعتبر معقل الإثنية الصينية، حيث رافقت زيارته تصريحات قال فيها أن بلاده تعارض بشدة أي تمييز عنصري ضد الماليزيين الصينيين، وأنها لن تقبل بأي مظاهرات شعبية عنيفة قد تصيبهم عرضا بسوء أو تعرض مصالحهم للخطر، وذلك في إشارة إلى مظاهرات كانت تيارات مناهضة للحكومة تنوي القيام بها للمطالبة باستقالة رئيس الوزراء الحالي نجيب رزاق بتهمة الفساد.
ومع تصاعد الاحتجاجات في وسائل الإعلام المحلية، وعلى ألسنة قادة الرأي وزعماء الأحزاب والنقابات على هذه التصريحات التي وُصفتْ بالتدخل غير المقبول في الشئون الداخلية لماليزيا إضطر السفير الصيني إلى عقد مؤتمر صحفي نفى فيه تهمة التدخل قائلا أن “حديثي أسيء فهمه وأخرج من سياقه العام”، ومؤكدا على متانة العلاقات الماليزية ـ الصينية، ومذكّرا بتقدير الصين الخاص لماليزيا باعتبارها الدولة الأولى ضمن “رابطة آسيان” التي أقدمت على تطبيع علاقاتها مع بكين في عام 1974 أي في عهد رئيس الوزراء الأسبق الأمير تون عبدالرزاق (والد رئيس الوزراء الحالي)، من بعد طول جفاء بسبب سياسات ماو الخارجية الخرقاء.
غير أن كل هذا لم يؤد إلى إغلاق الملف، بل أن الأمور تعقدت أكثر مع رفض السفير الصيني الإمتثال لطلب إستدعاء من الخارجية الماليزية للإستفسار عن تصريحاته بحجة أنه مشغول، بل قيامه برد مخالف لجميع البروتوكولات والاعراف الدبلوماسية هو الطلب من الخارجية الماليزية أن يبعثوا له من يناقشه داخل مبنى سفارته! وقيامه في الوقت نفسه بتكوين لوبي من المسئولين الماليزيين من ذوي العرق الصيني للدفاع عن تصرفاته.
يمكن إدراج ما حدث ضمن سلسلة من الأحداث التي تبرهن على قيام بكين بتصرفات القوة العظمى الوحيدة في محيطها الإقليمي، مستفيدة من إنشغال القوى العظمى الأخرى بالأزمات والنزاعات في منطقة الشرق الأوسط، أو سقوط تلك القوى في أيدي إدارات ضعيفة مترددة كما هو الحال مع إدارة أوباما في الولايات المتحدة الأمريكية.
من هذه الأحداث الإختراق المتكرر للسفن الصينية للمياه الإقليمية الماليزية في بحر الصين الجنوبي، والتي وصفها قائد القوات المسلحة الماليزية الفريق اول “ذوالكفل محمد زين الدين” في 18 أكتوبر الجاري بالأعمال الإستفزازية غير المبررة. ومنها اللهجة الشديدة المعطوفة على الانتقادات القاسية بالإهمال والتي استخدمتها السلطات الصينية مع نظيرتها الماليزية حول حادثة إختفاء الطائرة الماليزية المتجهة إلى بكين في مارس 2014. وهي تحمل على متنها 150 راكبا صينيا ضمن 227 راكبا آخر.
هذه الحوادث وغيرها دفعت معلّقين ماليزيين كثر للتساؤل عن جدوى علاقات بلادهم الخاصة مع الصين (تعتبر ماليزيا الشريك التجاري الثالث للصين بعد اليابان وكوريا الجنوبية في آسيا، كما أنها خلافا لبعض جاراتها ترتبط مع الصين باتفاقية شراكة استراتيجية شاملة تهدف إلى زيادة التعاون العسكري والقيام بمناورات حربية مشتركة ومكافحة الإرهاب العابر للحدود ورفع حجم التجارة البينية بنحو 3 أضعاف لتبلغ 160 مليار دولار بحلول عام 2017) طالما أن بكين تتصرف وكأنما هذه العلاقات الخاصة تعطيها الحصانة للتصرف كيفما يحلو لها، وتحميها من المساءلة. كما أن معلقين ماليزيين آخرين طالبوا حكومة بلادهم برد دبلوماسي قوي بدلا من الصمت والتزام ضبط النفس “الذي لم يجد نفعا مع الصين” حسب تعبيرهم.
Elmadani@batelco.com.bh
استاذ في العلاقات الدولية متخصص في الشأن الآسيوي من البحرين