لا تزال التساؤلات تحيط بالإيراني روح الله زم بعد شهرين على إعدامه. فهل كان معارضا شجاعا، أم شخصا مولعا بالعظمة، أم مجرّد ساذج؟ ويلفّ الغموض جوانب كثيرة من مساره المأساوي، ما بين لجوئه في فرنسا، و”خطفه” في العراق، وصولا إلى شنقه في طهران.
وتظهر صور نشرها والده محمد علي زم الشهر الماضي على حسابه على إنستغرام طفلا شقيّا، ثم رجلا باسم الوجه مكتنز الخدّين، ثم ربّ عائلة محبّا… وهي صور تختزل حياة الناشط الذي أعدم في 12 كانون الأول/ديسمبر في سن الثانية والأربعين.
يتحدر روح الله زم من عائلة متدينة نافذة، واختار له والده اسمه تيمنا بمؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله روح الله الخميني، وقد كان الوالد من أشدّ أنصار الثورة عام 1979 ومن أقطاب النظام الإيراني سابقا.
نشأ روح الله زم في أوساط نخب طهران، وانتسب إلى مدارس جيدة، لكنه كان قريبا من “الحركة الخضراء” ومؤيدا للإصلاحيين، ففرّ من البلاد بعد التظاهرات الكبرى عام 2009 احتجاجا على إعادة انتخاب الرئيس المحافظ المتشدد محمود أحمدي نجاد.
وبعد الإقامة لفترة في ماليزيا ثم في تركيا، وصل إلى فرنسا في 2012.
في باريس، التقى مزيار م.، وهو مبرمج كمبيوتر كان لاجئا في العاصمة الفرنسية منذ عشر سنوات، فساعده كثيرا.
ويروي مزيار “في تلك الفترة، كان يقيم في نزل للاجئين في شقة مساحتها 13 مترا مربعا مع زوجته وابنته.وكنت عانيت من وضع مماثل عند وصولي إلى فرنسا. فدعوته إلى منزلي، ومكث معي سنة”.
في تلك الشقة الباريسية حيث كان الصديقان يعملان في النهار ويناقشان أمور العالم كلّ مساء حتى وقت متأخر من الليل، أنشأ زم “قناة آمدنيوز” التي تحوّلت إلى إحدى القنوات الإيرانية الأكثر متابعة على تطبيق تلغرام، وبلغ عدد منتسبيها عند ذروة متابعتها حوالى مليوني شخص.
– “بلا حدود” –
إن كان زم خجولا وعاطفيا في حياته الخاصة، فهو كان مفرطا في النشاط وشديد الحماسة وصاحب مواقف جريئة في عمله، وفق المقربين منه. فكان يعقد اجتماعات متواصلة عبر الإنترنت مع إيرانيين في المنفى في جميع أنحاء العالم، وينشر مقاطع الفيديو التي يتلقاها من إيران.
حافظ على اتصالات عديدة وسط الطبقات الراقية في طهران، وباشر نشر معلومات حول فضائح الفساد والأخلاق، منها صحيحة ومنها غير صحيحة.
ويروي مزيار “حين كانت تندلع معارك بين أصحاب السلطة، كانوا يتوجهون إلى زم” لتسوية حساباتهم، فكان “ينشر المعلومات بلا حدود، لم يكن لديه خطّ أحمر، لم يكن يحترم لا الرئيس ولا المرشد الأعلى ولا أحد. كان يستهزئ حتى بوالده”.
وحققت “آمدنيوز” متابعة هائلة خلال التظاهرات ضد الفساد والأوضاع المعيشية في شتاء 2017-2018 في إيران.
لكن تلك كانت أيضا بداية السقوط. ويوضح المحامي حسن فريشتيان الذي كان مقربا منه، “أصبح روح الله معروفا بشكل واسع، كان يدعو إلى قلب النظام، ربما بدأ يخال نفسه زعيما”. ويتابع “شيئا فشيئا خسر أصدقاءه، كانوا يأخذون عليه أنه تطرّف، لا شكّ أنه كان هناك أيضا قدر من الحسد”.
وتقول مهتاب قرباني التي كانت صديقة زم وزميلته، “كان وحيدا ومعزولا. وكان هناك قسم من المعارضة الإيرانية في المنفى لا يثق به”.
ويوضح المنشقون الإيرانيون أن “هذه الريبة منتشرة بين المعارضين في المنفى، وتعززها الوسائل التي يستخدمها النظام”.
– الفخ العراقي –
وأغلق تطبيق تلغرام قناة آمدنيوز في نهاية 2017 لتحريضها على إلقاء قنابل مولوتوف على الشرطة.
ويقول أصدق زم إن المعارض الذي كان انتقل في تلك الفترة للعيش في مونتوبان بجنوب فرنسا مع زوجته وابنتيه، كان “محبطا تماما”. وكان يواجه تهديدات، وحصل على حماية حارس شخصي.
ويوضح مزيار “رغم كل شيء، كان يقول باستمرار: لن يتوقف الأمر بهذا الشكل. كان مهيّئا لاتخاذ قرارات سيئة والوقوع في فخ”.
في تشرين الأول/أكتوبر 2019، أبلغ زم محاميه الباريسي حسن فريشتيان أنه سيغادر إلى العراق حيث تملك إيران نفوذا واسعا، لإجراء مقابلة مع المرجع الشيعي الأعلى آيه الله علي السيستاني.
ويذكر فريشتيان “صحت به: إن ذهبت، فسوف يقضى عليك، لن تعود أبدا إلى فرنسا!”.
ويقول مزيار “الكل نصحه بعدم مغادرة فرنسا، حتى حارسه الشخصي، لكنه اكتفى بالإجابة أنه سئم الانتظار. وغادر، للأسف”.
ولا يزال الغموض يحيط بما حصل له بعد ذلك، لكن يبدو أنه تم اعتراضه في الطائرة فور هبوطها في بغداد، واقتيد في سيارة إلى الحدود الإيرانية حيث سلّم إلى الحرس الثوري.
وتقول مهتاب قرباني “لعب لعبة خطيرة بتوجهه إلى العراق، وخسر”. وتتساءل لِمَ لَم تمنعه الحكومة الفرنسية من السفر. وإذ ندّدت باريس في ذلك الحين بتوقيف زم، أوضحت أن الناشط “حرّ بالدخول إلى الأراضي الوطنية والخروج منها”.
– اعترافات تحت الإكراه –
وأدين زم أمام محكمة إيرانية بـ”الإفساد في الأرض“، وهي من أخطر التهم، وبالتجسس لحساب الاستخبارات الفرنسية والإسرائيلية، وإهانة “حرمة الإسلام”.
في تموز/يوليو، ظهر على التلفزيون الرسمي الإيراني في “مقابلة” أجراها معه صحافي واستمرت ثلاثين دقيقة، وهي وسيلة تستخدمها إيران لانتزاع اعترافات من سجناء، وفق ناشطين.
وبدا زم في تلك المشاهد الأخيرة هزيلا، وهو يجيب على الأسئلة ويبتسم بشكل آلي.
وترى مهتاب قرباني في إعدامه “تحذيرا” للمعارضين في المنفى. وتضيف “كان الهدف إثبات قوة النظام وزرع الرعب في نفوسهم”.
أما فريشتيان فيعتبر أن الناشط دفع ثمن حرب داخلية بين الأجهزة الإيرانية.
وأثار إعدامه موجة استنكار واسعة في العالم امتدت من الولايات المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي، لكن الرئيس الإيراني حسن روحاني استبعد أن يضرّ ذلك بالعلاقات مع أوروبا.
السَفَلة: أجبروا والده على الكذب عليه.. قبل إعدامه!
وأعدم روح الله زم شنقا فجر الثاني عشر من كانون الأول/ديسمبر. وسمح لوالده بزيارته في اليوم السابق، من دون أن يُسمح له بإبلاغه بتثبيت عقوبة الإعدام بحقه.
وتلقت ابنته نياز اتصالا هاتفيا أخيرا من والدها قبل ساعات من إعدامه. وكتبت على تويتر “كنت أعلم أن هذا سيحصل، ولم يكن بوسعي شيء”.
ويقول مزيار إنه واثق بأن صديقه “لم يعرف حتى اللحظة الأخيرة” بما كان يعد له.قتل