َلم تولد النزعة الإنسانوية التي أوصلت إلى العقلانية، إلا في اللحظة التي تم فيها اعتبار التاريخ القديم كمكان آخر مختلف ومغاير يتم انتهالُ نماذج مختلفة منه، وليس اعتباره امتداداً للحاضر.
استهلت الندوة التي أقيمت في عمان بين، 4 و5 سبتمبر، تحت عنوان “الدين والشريعة والعنف” بتكريم الفيلسوف اللبناني ناصيف نصار الذي تساءل في مداخلته حول المعنى المقصود لتسمية “مؤمنون بلا حدود”. وكيف يكون إيمانا بلا حدود؟ طبعا ليس المقصود أن يكون على نموذج مراسلون بلا حدود، أو أطباء بلا حدود. حيث المعنى واضح.
ما هو الإيمان بلا حدود؟ وما هي الحدود المطلوب أن يتجاوزها الإيمان؟ والمقصود هنا الإيمان الديني والإسلامي تحديدا. فهل يعني ذلك أن يكون الإيمان بلا هويّة؟ وهذا أحد الخطرين المتربصين بالتأويل، أن يكون الإيمان بلا هويّة أي مؤسسة. الحدود هي الهويّة التي ينبغي تحديدها. ورفع الحدود يحمل خطر طمس الهويّة.
الخطر الآخر يمكن قياسه على نمط دولة بلا حدود، على المثال الأميركي، فهي دولة ذات حدود جغرافية ولكن انتشارها كإمبراطورية يجعلها بلا حدود.
فهل مؤمنون بلا حدود تعني أن إيمانها طامح إلى الانتشار والسيطرة، وبالتالي القمع والإقصاء؟
بالطبع لا يبدو الأمر كذلك. فالحدود العازلة والفاصلة هي التي تبدو غير مقبولة. الإيمان الديني إيمان منفتح على الاختلافات في إطار الدين الواحد أولا، ثم بين الأديان وربما أكثر من ذلك. وبالتالي المطلوب بناء المؤسسة التي تستجيب للتحديات القائمة، بحيث لا يقتصر نشاطها على صعيد المستوى الثقافي، المهم بحد ذاته لمساهمته في جمع المثقفين في مؤتمرات وندوات لتنشيط التبادل والحوار، لكن المطلوب، أيضا، أن تحدد خطا فكريا لتيار أو مشروع ينطلق من قناعاتها. قناعات إيمانية إسلامية، تعمل على تحفيز إسلام تنويري متصالح مع العصر. بمعنى آخر موقف لاهوتي محدد من الإيمان. إعادة تأسيس لاهوت الإيمان. بهذا المعنى يتم اللقاء بين الدين والفلسفة والعلم وسائر قطاعات الفكر. ويصبح المطلوب نقد العقل العربي، والمطلوب نظرية تستوعب مختلف أنماط التفكير والالتماسات.
كيف يمكن القيام بذلك؟ بعض ما يمكن أن نستخلصه من المؤتمر أن ما يساعدنا البدء بالتعامل مع التاريخ بطريقة مغايرة لما هو حاصل. فالمسلمون يتعاملون مع تاريخهم عاطفيا ويشعرون أنهم امتداد عضوي لهذا التاريخ وجزء حي منه. ومن هذا المنظار يتم تمثل التاريخ الإسلامي تمثلا تغلب عليه الأيديولوجيا والطوباوية التي لا ترى سوى ما ترغب في أن تراه. فبين الخيار السني المتمسك بماض مجيد بحيث لا يتمثل الخلاص إلا بجعل الماضي مرجعا للحاضر وضرورة العودة إليه وتطبيقه كما هو لمواجهة الواقع المأزوم والمهزوم، واعتبار الإرهاب وممارسة العنف هما الحل. وبين الخيار الشيعي الذي يستند إلى المظلومية التاريخية، التي انتفت شروطها، لممارسة العنف والاستحواذ والغلبة.
إنه صراع سياسي حول السلطة باسم الشرعية والشريعة. من هنا ضرورة إعادة التفكير حول مفهوم “الشرعية” ولماذا تم ربطه بالشريعة وبالدين حصريا. وفي هذا النطاق قدم الباحث في التاريخ الإسلامي يونس قنديل قراءة نقدية ملفتة في ضرورة إعادة النظر في مفهوم الشرعية المتفرع عن مفهوم الشريعة.
تستمد الشـرعية وجودها من فكرة الإيمان الإنساني الثنائي الطابع: خير – شر، وقوة – ضعف، وحق – باطل. في التاريخ الإسلامي ارتبطت فكرة الشرعية بالمدونة الدينية وبمنطوق النص الديني (حق – باطل) فاعتبر وحده مصدرها. لكن الدين يكوّن إحدى روافد القيم عند الشعوب وليس مصدرها الوحيد.
هذا الارتباط بين الشرعية والدين أخرجها عن حق الاجتماع في الإسهام في تكوينها وتعديلها والتدخل فيها بحسب التطورات التي تطرأ على الاجتماع وقيمه. هذا ما سمح لداعش ومثيلاته أن يبني تصوراته الخاصة عن الشرعية، جاعلاً مرجعيته ومطلبه الدولة الإسلامية بما تتضمنه من شرعية تاريخية في المخيال الإسلامي فيفرضه على عامة المسلمين.
ذلك كله أضاع الخيار الثالث المتمثل في اتخاذ المسافة الضرورية التي وحدها تسمح بقراءة نقدية لهذا التاريخ كي لا تتحول الأيديولوجيا على الضفتين إلى مؤجج للصراع ومصدر للعنف.
ربما علينا أن نمرّ، بطريقة أو بأخرى، بما تعرّضت له التجربة الغربية، فالقرون الوسطى الأوروبية تغذت من التاريخ الكلاسيكي القديم.
إن كل من يتعمق في النصوص اللاتينية واليونانية في تلك الحقبة لا يملك الشعور بأن التواصل يتم مع عالم مختلف عن العالم اليومي لتلك الحقبة. نفس الأمر يحصل حاليا مع بعض حركات الإسلام السياسي التي تطلب العودة إلى نمط الحياة الذي كان سائدا في مطلع الدعوة الإسلامية. واعتبار كل ابتعاد عن هذا النموذج كـ”بدعة وضلال”.
لم تولد النزعة الإنسانوية التي أوصلت إلى ما نسميه العقلانية، إلا في اللحظة التي تم فيها اعتبار التاريخ القديم كمكان آخر مختلف ومغاير يتم انتهال نماذج مختلفة منه، وليس اعتباره امتدادا للحاضر. أي التعامل مع التاريخ بشكل بارد وموضوعي. نزع العاطفة تجاهه كما التماهي معه.
إن تجربة النزعة الإنسانوية هي اغتراب ولا تمركز. حركتان، إحداهما تتمثل في العودة إلى التاريخ القديم باتخاذ مسافة مع المجتمع الراهن مما يسمح بالحكم عليه، والأخرى تبتعد عنه ما يسمح بإقامة مقارنات وإيجاد عقائد جديدة. هي عملية انفتاح ذهني وبحث عن الحقيقة. ما ساعد عليها في أوروبا الرحلات وأدب الرحلات الذي سمح بالتعرف على الحضارات الأخرى. هذا ما قاد إلى تلمّس التنوع الإنساني واكتشاف منطق الحضارات الغريبة والدخول إليها.
إن أهم تأثير لهذا الاتجاه على العلوم الاجتماعية، كان فرضه نمطا أكاديميا معينا في قراءة وتأويل النصوص والوثائق الأدبية. ولقد تم عبر التساؤل، حول نوعية القراءة التي تقود إلى المعرفة الدقيقة. وأهم الوثائق المراد فهمها كانت، طبعا، الكتب الدينية المقدسة. ما أوجد تقليدا خاصا يلح على المستويات المتعددة للقراءة، وعلى حدس المعنى المقصود أساسا والذي صار غريبا، مع مرور الزمن، على من يقرأه حديثا.
هذا التأويل الجديد يعلّم الإنسان نسيان حشد المواقف المسبقة وطرح الأسئلة بأشكال جديدة ومختلفة.
هذا التأويل لا يمثل سوى أحد أوجه الجديد الذي حملته النزعة الإنسانية. ذلك أن حركة نقد النصوص المقدسة لا يمكن فصلها عن ازدهار التأويل، خاصة عند دراسة هذه النصوص، إذ أن احتمال هيجان العواطف عندما يتعلق الأمر بالتوراة، جعل من تقدم مناهج النقد أمرا سريعا وضروريا، مما أعطى نتائج موثوقة.
ولقد كان لتيار النقد هذا تأثير عظيم على نمو الفكر العلمي ككل، سواء تعلق الأمر بالعلوم الاجتماعية، أم بالعلوم البحتة أم الطبيعية. لقد تم التسليم أن كل معرفة هي تاريخية، مؤرخة ومطبوعة في النمو التدريجي لشجرة المعرفة.
من هنا ما ينبغي أن نتذكره دائما أن المشكلة ليست في التراث أو في الدين، بل في فهمنا وفي تأويلنا له، والعبرة هي في مدى قدرتنا على اتخاذ المسافة الملائمة من أجل القيام بذلك. هذا يتطلب اعتبار التاريخ تاريخا وانقضى. وعلينا، نحن، فهم حاضرنا من أجل بناء المستقبل.
monafayad@hotmail.com
جامعية وكاتبة لبنانية