“بقاء الذاكرة”، عن العلاقة بين الزمن والموت، عُرِضت لأول مرة في ١٩٣١، وتُعتَبَر أشهر لوحات الإسباني “سلفادور دالي”
قد تبدو الحياة في أحيانٍ كثيرة مثل قصَّةٍ في صورة، تستمرُّ تنسجها من واقعكَ الذي تريده أنْ يتهادى حاضراً في تناسلات الذاكرة، ولذلك تشعر دائماً كم تعبركَ الصُّور والأحاديث والأفكار الناطقة بالأشواق واللهفات والتجلّيات والمسرَّات والموجعات أيضاً، وتبقى تنثرها هنا وهناكَ على قارعة الأيّام، ولكنّكَ تمضي حثيثاً إلى غدكَ الذي يمنح عمركَ عمراً من الذكريات.
ها أصبحتَ تعرفُ أنّ عليكَ أنْ تمضي حرَّاً وأنيقاً في فكركَ وعقلك، ولذلك لم تعد تُحصي ما تهدَّم منكَ سابقاً، ودائماً ما تتركه يتلاشى في هاوية النسيان، وأيضاً لا تكترثُ بما قد يتهدُّم منك لاحقاً، ليسَ لأنّك لا تتوجّع من ذلك، ولكن لأنّكَ تدركُ جيّداً كم أنّه عليك أنْ تحافظ دائماً على رصيدك من حريّة الذات والفكر.
في الذاكرة لا شيءَ ينتهي تحديداً، وكم صرتَ تعرفُ ذلكَ جيّداً. فالأشياء تعود تقريباً ولكن ربما في صورةٍ أخرى . ذلك لأنّ الذاكرة لا تغادركَ ولا تنسحبُ من حياتك . إنّما تبقى تلازمكَ وتنتقلُ بكَ من حالةٍ إلى حالةٍ أخرى ومن مستوىً إلى مستوىً آخر ، وفي هذا المخاض من تجلّيات ذاكرتكَ الطَّليقة هنا وهناك ، كانَ عليكَ أنْ تعرفَ دائماً إنّكَ تسعى إلى أنْ تتعلّم وتتغيّر وتتحسَّن وتتجاوز.
وأحسبُ أنّكَ تحصد مجد الحياة الحرَّة في ذاكرةٍ آجلة . لأنّكَ في عقلكَ وفكركَ دائماً ما تمضي ناقداً وحرَّاً ومحدّقاً ومبصراً . فأنتَ لستَ إلاّ ذاكرة خلاّقة تحدّق في المستقبل ، وتأتي دائماً من حيث أنّكَ تأتي غداً . ولأنّكَ تعرفُ أنّ الطَّريق الذي أنتَ فيه ، هو ذاته الطَّريق الذي ستراه مجدَّداً في ألق الأفكار والكلمات والومضات والتدفّقات والتجلّيات ، وتعرفُ أيضاً أنّ كلّ ما هنالك قد ينتهي إلى الفناء ، فقط وحدها الذاكرة المفعمة بِالحريّة والجمال والإبداع والتّفرد والضّوء ، ستبقى تختال سطوعاً هناكَ في سفوح الغد.
وأخالكَ تعرفُ جيّداً أنّ ما يبقى لكّ ومنك بعد أنْ يعبركَ كلّ شيء، هو شعوركَ أنّكَ لم تزل حرَّاً في قلبك الطَّليق. هذا الشّعور وما يصاحبهُ من بريق العقل وألق الفكر ولذَة الفهم، يضعكَ دائماً أمام الحاضر، حاضركَ الذي لا يخذلكَ في رفقتهِ الخلاّقة، ويضعكَ أمام تخلّقاتكَ المغرمة بفنون الابتكار، وأمام حريّتكَ التي تشعر من خلالها وبِرفقتها أنّكَ لم تزل شغوفاً باكتشاف ذاتكَ في كلّ جديدٍ من أفكاركَ وتساؤلاتكَ واستفهاماتك.
ولا يهمّكَ كثيراً أنْ تعرفَ لاحقاً أنّكَ كنتَ وحيداً في أفكارك الخارجة على السَّائد والمعتاد والمتكرر والشائع. فما يهمّكَ الآن تحديداً أنّك أصبحتَ أكثر قرباً وانسجاماً مع تجربتك الملهمة تلك. تخوضها وأنتَ مدركٌ لِحريّتكَ في فرادتها المميّزة ، لأنّكَ من خلالها تختبر دائماً قدرتكَ على التحرَّر من استبداد السَّائد وهيمنة اليقينيّ وسلطة الأفكار الهادمة ، ولأنّكَ تحيا من خلالها وأنتَ تدركُ حقّكَ كاملاً في فهم ما تريد وفقاً لِذاتك الحرَّة في فهم المعنى من وجودها.
ولأنّكَ تتقدُّم دائماً في عقلك وفكرك ، وتتعرَّفُ من خلالهما على جميل اختيارك وجوهر وجودك ومعنى قرارك. ترى أنّ تفكيركَ وقد أصبح أكثر قرباً والتصاقاً بتجلّياتك وتساؤلاتك وافهاماتك، وتراه يتخلّقُ استنطاقاً ونقداً وتفكّراً وإبداعاً في رحابة التنوّع والضوء والوضوح . ولذلك تفشل كلّ المحاولات البائسة ، تلك التي تريدكَ متراجعاً ومستسلماً وغارقاً في مهالك الجهل والسذاجة واليقين . إنّهم لا يعرفون أنّ العودة إلى كلّ ذلك البؤس ليس في حسابات عقلك وفكرك مطلقاً ، ولأنّك أصبحتَ تعرفُ تماماً أين قد تقدَّم بكَ عقلك، وفي أيّ طريق يسير فكرك ، وإلى أين تأخذكَ فتوحاتكَ المعرفية ، وكم يحسبون أنّهم ينتصرونَ عليكَ بأوهامهم وتراجعاتهم ويقينيّاتهم ، ولكنهم لا يعرفون أبداً أنّهم يفشلونَ دائماً في هزيمة تفكيرك وعقلك.
إنّكَ عادةً ما تترك الأشياء التي لا تستطيع أنْ تفهمها بدايةً أنْ تظهر أولاً في عقلك، وتختمر تكويناً في فكرك، وتتجلّى تالياً بِالوضوح في ذهنك، تتركها هكذا وتمضي إلى ذاتك في انشغالاتها وتفكّراتها، تنشغل بذاتكَ في ذاتك، متيقّناً من وضوحكَ وتحرَّركَ في انشغالات عقلك. ومِن ثمَّ تترك كلّ تلك الأشياء أنْ تنبتَ في أعماقكَ شيئاً فشيئاً بِالتّبصَّرات والمعاني.
عرفتكَ هكذا دوماً لا تلغي أيّ موعدٍ لك مع الحياة ، تذهبُ إليه من فوركَ مصحوباً بِالدَّهشات والتخلّقات والأشواق، وتبقى وفيّاً في رفقتكَ مع الحياة . لأنّها في الحين ذاته تبادلكَ الرغبات والاشتهاءات والتّفنّنات. إنّكَ في خضمّ كلّ ذلك قد لا تعرفُ على وجه التّحديد كيف تجري الحياة في عروقكَ ، ولا تعرف تحديداً كيف وقعتَ في غرامها ، ولكنّكَ تعرفُ تأكيداً كيف عليكَ أنْ تعشقَ طريقتكَ في التعبير عنها ، من خلال فكرةٍ وامضة أو دهشةٍ ملهمة أو صداقةٍ خلاّقة أو حضورٍ دافق بالحبّ، أو جمالٍ يتجلّى سطوعاً في المعاني والتّصورات ، أو إبداعٍ في استدعاء الحريّة من أقاصي الفهم.
وفي نظرتكَ إلى كلّ ما تتعالقُ معه فكراً وجمالاً وحبّاً وإبداعاً، تعتقد إنّه في إمكانكَ أنْ تراه على نحوٍ أفضل ، وهذا من شأنهِ أنْ يمنحكَ ثقةً كبيرة بِقدرتكَ الدائمة على تغيير تفكيرك ، وترتيب أفكارك وتصفية ذهنك، وتحسين تركيزك . وهذا يعني أنّ ما تتعالق معه يتوفّر فيه من الأساس قدرٌ هائلٌ من حريّة الفكرة والتفسير والشّك والتغيير والتحوّل ، ولذلك تملكُ معه فنّ السؤال وشغف التّحديق ومتعة التفكير ولذّة المعرفة.
ولكي تكون في صميم قرارك وفي معنى اختيارك، وفي رحابة تفرُّداتكَ الفكريّة والنقديّة والتساؤليّة، دائماً ما تضع ذاتكَ أمام ذاتكَ في اختبار التفوّق، تختبر من خلال ذلك قدرتكَ على اكتشاف أخطائك وتعثراتك هنا وهناك ، وقدرتكَ على تتبّع ضعفك وما قد يصيبك من تراجع في لحظةٍ غامضةٍ ومعقّدة . فكلّ ذلك يعني أنّ ذاتكَ في اختبار التفوّق ، تملكُ أنْ تدفعكَ إلى تلمّس ما كنتَ تريد أنْ تتعلّمه وتفهمهُ وتدركهُ ، تحقيقاً بديعاً لِقدرتكَ على الإبداع والتغيير والنقد والتفلسفِ والتقدَّم.
وكم بتَّ تعرفُ أنّ بعضاً من الطريق يتلاشى في العدم، ولكنّ بعضه الآخر يحتشد بارقاً في ذاكرةٍ من ضوء، إنّه بعضكَ الذي صار يتجلّى وضوحاً في فعل الانعتاق . الفعل الذي يمنح الضوءَ غريزة الإنارة والتحديق والظهور . وإنّه صار مكانكَ الذي أصبحتَ تجد ذاتكَ فيه ، وهوَ ذاته الطريق الذي يأخذكَ مرَّةً أخرى إلى ذاتكَ في فعل الانعتاق والضوء . وفي كلّ لحظةٍ من فعل الانعتاق تدركُ جيّداً إنّها اللحظة التي تستطيع أنْ ترى من خلالها ذاتكَ بكلّ ما تملكُ من شعور الحريّة والوضوح ، فالممسوسونَ باحساس الإدراك والفهم والرؤية ، دائماً ما تكون المسافات في سعيهم اختياراً حرَّاً في تنوّرات الوعيّ.
وليس أجمل من ذاكرةٍ تحلّقُ بعيداً في حريّة الفهم والإرادة ، تأخذكَ شغوفاً إلى ذاكرةٍ أخرى ، تتخلّقُ حضوراً وتنوّعاً في ألفِ حياةٍ وحياة ، ولا شيءَ أكثر صفاءً وإلهاماً من هذه الحياة التي تحياها وتعيشها وتعود توجدها في عقلكَ ورؤاكَ المبصرة . إنها الذاكرة في حياةٍ تتعالقُ فكراً مع تجلّيات الوضوح ، وتلهمكَ في الحين ذاته سكوناً بديعاً يتهادى فهماً وإدراكاً في أعماقكَ التي تراها وقد تحرَّرتْ من بؤس التعقيدات الخانقة ، تلك التعقيدات التي لا تنفكُّ تريدكَ مريضاً بِالمحرَّمات والفروضات والمنقولات، وتريدكَ أيضاً مكبّلاً بِالتّردد والتراجع والخوف والجمود . ولذلك صرتَ تمضي في ذاكرتكَ وحياتكَ منشرحاً وطليقاً ، متيقّناً من أنّه لا يوجد هناك سوى عقلكَ يترصَّدكَ بِالفهم والمتابعة والرعاية والنقد أيضاً.
وكم أصبح يبدو لكَ جليّاً إنّكَ في تعالقكَ الخلاّق مع معظم الأشياء والأفكار، كان عليكَ أولاً أنْ تفهمها وتتعلّمها على مراحلَ وأجزاء ، ذلك لأنّ هناكَ الكثير من الأشياء في الحياة والكثير فيما يتعلّق بِذاتك هنا وهناك ، والكثير فيما أنتَ بِصدد التعالق معه ، لا تستطيع أنْ تملكَ تصوّراً واضحاً ورصيناً عنها من أول التماسٍ أو ممارسةٍ أو تجربة ، ولذلك كانَ عليكَ أنْ تتعلّمها وتفهمها عبر مستوياتكَ التفكّريّة ، تلك التي تتجلّى حضوراً وتخلّقاً ونضجاً في فنّ التوافق والتبادل والانسجام والاختيار ، وكان عليكَ أيضاً أنْ تفهمها في تعاقباتٍ متداخلة ، وفي أجزاءٍ من هنا وهناك تروم في الأساس إلى وضعكَ متسائلاً ومتبصراً على قيد الذاكرة الخلاّقة . وكلّ ذلك كان من شأنهِ أن منحكَ رحابةً في تدرَّجات الفهم والتفكير ، استوطنتْ تالياً في جوانب مضيئة من افهاماتكَ وتصوّراتك.
وتعرفُ أنّ في كلّ خطوةٍ لك تتقدُّم بها في فسحات المعرفة والفكر والفهم والتأمل ، هناك ثمة طريق. وما بين خطوتكَ هنا والطريقُ هناك ، أنتَ تحتفظُ دائماً بِذاكرةٍ ملهمة تدفعكَ إلى تقصِّي حقيقة وجودكَ في هذا الطريق ، وفي لحظةٍ قد لا تتوقّعها تدركُ تماماً أنّكَ تملكُ أجمل ما يجعلكَ تمضي إلى ما تريد ، إنّها تراكماتكَ المعرفية في ذاكرة الحريّة والضوء ، تضعكَ دائماً في صميم تفكيرك واختيارك ، وأنتَ تمضي في طريقكَ هذا ترى دائماً ما تريد أنْ تراه ، ولكنّكَ في جميل أمرِكَ لا ترى إلاّ ما تريد أنْ تراه تفسيراً منطقيّاً وموضوعيّاً لحقيقةِ فهمكَ وشعوركَ وحريّتك . إنّه شعوركَ الدائم بِقيمتكَ الحقيقيّة أمام نفسك ، وهو الشّعور ذاته الذي يجعلكَ تمضي في طريقكَ الفسيح إلى تفتّحاتكَ المعرفيّة والفكريّة ، وأنتَ تملكُ من جرأة الفهم وشجاعة التجاوز ومهارة التحديق ما يجعلكَ قادراً على امتلاك حقيقتك في ذاتك.
وما يبعثُ فيك شغف المواصلة ولذّة الاستمرار ، أنّكَ تنسى كلّ شيءٍ تقريباً، وتتذكّر كم أنتَ سعيدٌ في لحظتكَ الراهنة، لأنّكَ تقطع الطريق معها وفيها دائماً إلى حيث ما تريد أنْ تكون ، وفي هذا توقكَ الشهيّ الذي يقرّبكَ كثيراً من ذاتك ، وفيه أيضاً غرامكَ الذي تدركُ من فوركَ أنّك تولد من خلاله أبداً جديداً في أفكاركَ وتجلّياتكَ واختياراتكَ واشتهاءاتك ، وكم تدركُ أنّه ليس عليكَ في هذا المسعى سوى أنْ يتّسع عقلك وفكركَ لكلّ ما يتوفّر أمامكَ من جمال الفكرة والخَلق والسؤال ، وستعرفُ من خلال ذلك مدى قدرتكَ على تخطَّي كلّ ما من شأنه أنْ يعيقكَ أو يسلبكَ اختياركَ وتقدُّمكَ وحريّتك ، وتعلمُ أنّ الوقت هنا يمضي ولا يعود أبداً ، بينما ما تعرفهُ يقيناً أنّ الوقت الذي يبدأ معك ، يبدأُ من حيث تريد أنتَ أنْ تكون.
Tloo1996@hotmail.com
كاتب كويتي