اختار الباحث البحريني د. عبدالله المدني بتوازن وإتقان، مجموعة أخرى من الشخصيات الخليجية، ليقدمهم للقراء في الجزء الثاني من كتابه “على رمال الخليج: النخب في الخليج العربي”، والكتاب من منشورات هيئة شؤون الإعلام بالبحرين، 2019، ويقع في 792 صفحة.
يقدم د. المدني في هذا الجزء سيرة حياة وإنجازات أكثر من ستين شخصية، ظهرت ونشطت على رمال الخليج، حيث وضع الباحث يده على جوانب التميز والعطاء فيها، ونبش تاريخ المنطقة وثقافتها، وضم في الباقة المتميزة أسماء سعودية وكويتية وإماراتية وبحرينية وغيرها، اختارها من رجال ونساء المنطقة، ولم يهمل حتى بعض رجال أعمال الهند الذين برزوا في المنطقة، وعلى رأسهم “آل جاشنمال”، “توني” و”موهان” و “بهارات”!
يقول د. المدني، إن حاكم الكويت العاشر الشيخ “أحمد الجابر”، شعر مع المعتمد السياسي البريطاني “هارولد ديكسون”، بضرورة وأهمية “وجود محل تجاري كبير في الكويت يبيع كل شيء”، وكانت سلسلة “محلات جاشنمال” موجودة في مدن العراق كبغداد والبصرة، فلم يصعب على صاحبها الهندي افتتاح محل مماثل في ساحة الصفاة بمدينة الكويت في عام 1934، وهكذا ظهر أول “سوبر ماركت” في البلاد. ويضيف الباحث أن مجموعة قيمة أموال سلسلة جاشنمال اليوم تقدر بنحو مليار ونصف دولار، وتمتلك في المنطقة الخليجية أكثر من مئة متجر يعمل فيها أكثر من ألف موظف.
كتاب د. المدني سجل ثري بالمعلومات ومتزاحم بالأحداث التي تغطي التطور الثقافي والحداثي في المنطقة الخليجية، ورغم بروز الجوانب السياسية والاقتصادية، فإن الموسيقى والغناء والتمثيل تحتل مركزاً ملحوظاً من التغطية.
فنراه مثلا يقف عند الفنان “شادي الخليج” و”قنبلته عام 1963″، عندما جرى امتزاج الصوت الجميل المعبر بعبقرية الملحن أحمد باقر، وكلمات شاعر الكويت الكبير فهد العسكر في أغنيته “كُفّي الملام وعلليني”.
ويقدم كذلك “الأب الروحي للأغنية السعودية” الفنان الراحل “طارق عبد الحكيم”، أول مؤسس للفرقة الموسيقية في الجيش السعودي، وأول مبتعث لدراسة الموسيقى في مصر من المملكة.
“الحكيم” كذلك، هو صاحب الأغنية التي طار صيتها في كل العالم العربي، ولا تزال تحتفظ بجمال الكلمات وروعة اللحن، “ياريم وادي ثقيف”، التي وضع كلماتها قبل ستين عاماً الأمير الشاعر عبدالله الفيصل، وغناها “الحكيم” أولاً، ثم أخذها مسافراً إلى مصر عام 1952 لتغنيها الفنانة “نجاح سلام”. يقول “الحكيم”: “ثم أخذت نسخة من الأسطوانة وذهبت بها إلى مدير إذاعة “صوت العرب” آنذاك “أحمد سعيد”، وكانت هذه أول أغنية سعودية تذاع من إذاعة مصرية”.
من شخصيات الكتاب النسائية، التربوية د. عائشة بنت علي السيار، وكذلك الاختصاصية في مجال الهندسة الذرية د. أماني الحوسني، وقد درست د. عائشة في إمارة الشارقة وكانت أول من تنال درجة الدكتوراه من خريجات الإمارات في القاهرة، وكانت كذلك أول سيدة تعين في منصب وكيل وزارة التربية والتعليم.
يقول “المدني” عن د. عائشة، التي أتمت مرحلة الدراسة الثانوية في الكويت قبل عودتها، وعن سفرها إلى مصر: “وفي هذا السياق أخبرتنا الدكتورة عائشة السيار في حديث صحافي لها أنها سافرت مع زميلاتها الثلاث في مدرسة فاطمة الزهراء وهن الشيخة عائشة بنت صقر القاسمي والشيخة ناعمة بنت ماجد القاسمي وآمنة الهاجري إلى الكويت لتوقيع عقد بعثة دراسية جامعية إلى مصر تتكفل الحكومة الكويتية بنفقاتها، ثم حدث أن وافقت مصر على قبولها هي والشيخة عائشة بنت صقر في جامعاتها، ولم يحالف الحظ الأخريات”.
ويضيف: “وعن ذكريات وطريقة انتقالها في ذلك الزمن المبكر من الشارقة إلى القاهرة، قالت في حديث لها منشور في صحيفة البيان (23/ 1/ 2015) أنها سافرت من الشارقة إلى كلباء بسيارة جيب إلى أن وصلت إلى مطار القاعدة الجوية البريطانية هناك، فاستقلت منها الطائرة إلى الكويت ومن الأخيرة إلى القاهرة”. (ص 458).
أما د. أماني الحوسني فقد انضمت عام 2012 الى برنامج “مؤسسة الإمارات للطاقة الذرية” بعد دراستها في “جامعة العين” وتخرجها من “جامعة خليفة للعلوم والتكنولوجيا”، حيث نالت شهادة الماجستير في الهندسة النووية، والدكتوراه من “جامعة نيوكاسل” البريطانية، وتعمل اليوم في “شركة مصدر” للطاقة الشمسية. (ص204)
والجدير بالذكر، يضيف الباحث، “أن مؤسسة الإمارات للطاقة النووية يعمل فيها 1400 موظف، 60 في المئة منهم إماراتيون، ومن هؤلاء تشكل النساء نسبة تصل إلى نحو 23 في المئة، وهذه مفخرة أخرى لدولة الإمارات، ذلك أن هذا المعدل يفوق المعدل العالمي البالغ 20% من النساء اللواتي يعملن في مثل هذه المهنة على مستوى العالم. وأخيرا لا بد من الإشارة إلى أن د. الحوسني عضو في “مجلس علماء الإمارات”، وهذا المجلس اعتمدت الحكومة الاتحادية إنشاءه في فبراير 2016”.
وعن بقية أعضاء المجلس يقول إنه يضم نخبة “من ألمع علماء وأكاديميي الإمارت مثل: أحمد حسين الحارثي (مخترع آلية إنتاج الوقود الحيوي من الطحالب)، البروفيسور أحمد مراد الرئيسي (عالم في مجال الجيولوجيا المائية ومصادر المياه ونظائرها)، الدكتور فيصل عبدالله المرزوقي (مخترع تقنية المياه بالاعتماد على تكنولوجيات النانو)، الدكتور علي عبدالله النقبي (مخترع الكبد الصناعي ذي الثلاث غرف)، محمد مطر الشامسي (عالم وخبير الروبوت)، الدكتور غالب علي البريكي (عالم التغذية)، الدكتورة حبيبة الصفار (عالمة وخبيرة العلاج الجيني)، الدكتور محمد عبدالعزيز سلطان العلماء (استشاري جراحة المخ والأعصاب وأول جراح زرع جهاز مراقبة وقياس ضغط المخ عبر مستقبل لاسلكي)، والدكتور عارف الحمادي (بروفيسور هندسة الاتصالات والكهرباء والإلكترونيات)”. (ص207).
وتناول د. المدني بعض الشخصيات الأوروبية والغربية التي كان لها بعض الأدوار في تاريخ المنطقة، من هؤلاء “آلن فارياس” أو “فاليرز” Valliers، الرحالة والمصور والصحافي والبحار الأسترالي الذي أبحر على متن بوم كويتي وسجل مذكراته، والبيطري الأسترالي كذلك “أليكس تنسون” Tinson، الذي “قضى نحو ثلاثين عاماً في صحراء الإمارات العربية المتحدة يعالج جمالها، ويفحصها طبياً، لخوض السباقات، ويرشد البدو القائمين على تربيتها إلى أفضل الطرق لرعايتها، كل هذا والرجل غير متخصص في علاج الإبل وإن كان طبيباً بيطرياً عاماً” (ص164).
ومن هؤلاء الغربيين الطبيبة الأميركية في الكويت، السيدة “إليانور كالفرلي” المعروفة باسم “الخاتون حليمة” eleanor Calverley، زوجة القس “إدوين كالفرلي” الذي كان يدير آنذاك أول مدرسة لتعليم اللغة الإنكليزية في الكويت.
ويقول الباحث إن الطبيبة وصلت إلى الكويت في زمن الشيخ مبارك الكبير في بدايات القرن العشرين، وقد جاءت بصحبة زوجها وبناتها الثلاث إليزابيث وغريس وإليانور، اللاتي قام الشيخ مبارك “بتكويت” أسمائهن: “قماشة”، و”نعيمة “و”نورة”! وينقل “كالفرلي” عن الشيخ أنه خص الأميركيين بالتقدير، فقال عن الإنكليز “هؤلاء نرخب بهم للتجارة في بلدنا، ولكن الأمر يختلف معكم أيها الأميركيون، أنتم محبون للخير، أنتم هنا تعملون لخير شعبي، أنا لن أبيع لكم الأرض التي تريدونها- لبناء المستشفى- بل سوف أعطيها لكم هدية مجانية”. (ص180).
ولم يجد “كالفرلي” في الكويت الكثير من الأشياء المثيرة، فكتب “ليس في أرض الكويت شيء يجذب الاهتمام، لكن لها أهمية واضحة كونها البلد الوحيد في الخليج الذي له ميناء”! ومع هذا، قال إن الطريق إلى ميناء الكويت “متعرج وملتو وقليل من القباطنة هم الذين يحاولون الدخول إلى الميناء بعد هبوط الليل”.
في الكتاب صفحات مهمة عن حياة الفنان اليمني “أبو بكر سالم بلفقيه”، الذي أمضى بقية حياته في السعودية، حيث “لم يشعر بالغربة إطلاقا في جدة، فالكثير من عائلاتها وأثريائها ينحدرون من أصول حضرمية. وأثناء إقامته في جدة تزوج “بلفقيه” من فتاة حضرمية تحمل الجنسية السعودية من بيت “العطاس” فأنجبت له ابنه “أصيل” الذي سار على درب أبيه في الغناء، وتزوج الفنان ثانية في عدن. وقد غنّى في لندن بقاعة “ألبرت هول” الشهيرة عام 1983، وفي سنة 2003 أصدر البريد اليمني طابعاً تذكارياً يحمل صورته.
في الكتاب شخصيات كويتية متباعدة المسار والتيار وإن حظوا بتمثيل الشعب في مجلس الأمة، ومن هؤلاء مثلا د. أحمد الربعي والسيد عبدالعزيز المساعيد.
يقدم د. المدني أحمد الربعي (1949-2008) بأنه “ثائر من الخليج عاد إلى رشده نادماً”، ولكنه يقول كذلك إن يوم وفاته، الخامس من مارس، كان “يوماً حزينا لمحبي ومريدي المفكر والنائب والوزير الكويتي الدكتورأحمد عبدالله الربعي العنزي“، ويضيف إن د. الربعي “بنى لنفسه مكانة مرموقة في أوساط النخب الخليجية معطوفة على شعبية جارفة، لكن كان هناك في المقابل من أضمروا له العداء وشنوا عليه حروباً شعواء انطلقت من بغضهم لتوجهاته العلمانية والتنويرية المضادة لتوجهاتهم الدينية المتشددة”.
وُلد د. الربعي، يضيف الباحث، في منطقة المرقاب من عائلة أصلها من “بريدة”، القصيم، بأواسط نجد، والتحق في بادئ الأمر بالمعهد الديني واختار دراسة “المذهب الحنبلي”، وقد “ساهمت مبكراً في إلمامه بمنهج الحنابلة وطريقة تفكيرهم”. (ص72).
دخل د. “الربعي” خلال حياته في مسارات ومجالات متنوعة، وعاش حياة سريعة زاخرة بالأحداث قبل رحيله المبكر المأسوف عليه، ومن أقواله التي يقتبسها د. المدني في ترجمته الزاخرة المصورة قوله “لم أرض لفكري أن يتجمد تحت مكيفات الهواء، لذا فإني وضعته تحت مشرط الممارسة”. ويضيف د. المدني: “دخل الربعي عالم السياسة من باب جديد غير ذلك الباب الذي استخدمه زمن مراهقته الثورية. وعن هذا تحدث في صحيفة الدستور الصادرة عن مجلس الأمة الكويتي (2/ 5/ 2001) فقال ما مفاده إن قدمه انزلقت يوماً وأصبح سياسياً، وكان المفترض أن يكون خارج دائرة السياسة لأن الساسة يقولون ما لا يفعلون، أو أنهم يتخذون مواقف تبدو في ظاهرها مبدئية لكنها في الحقيقة مدفوعة الثمن”.
كان د. الربعي مرحاً متفائلا حتى في ساعات الشدة، ومن أقواله “إن الإنسان المحبط في هذا العالم غير معطاء”. (ص81). عاش د. الربعي شهوره وأيامه الأخيرة يصارع بشجاعة نادرة ومعنويات مدهشة في مرح وتنكيت وسخرية، الداء الوبيل الذي انتشر في دماغه بلا رحمة، يعاني فوق ذلك ما يرافق علاج ذلك المرض من اكتئاب. وقد سمعت صديقاً يقول متحسراً على مصابه “عادْ دماغ الربعي؟ من بِدْ كِلْ هالعقول المصينة في الكويت؟!”. وشاركته كالكثيرين الحزن والأسى.
تقول السيدة قرينته في كتاب د. المدني: “كان شخصية عجيبة، علمنا في مرحلة المرض معنى قيمة الحياة، كنا نجلس معه كل يوم في السنتين نتناول الأدب والشعر والسياسة، كانتا سنتين من أجمل أيامنا كأسرة، كان هو من يعطينا الأمل وليس نحن، وكان الدكاترة يتعجبون من إرادته وقوته ورغبته في الحياة، أعتقد أن هذه الفترة من حياته يجب أن تُدريس ليتعلم الناس عدم اليأس والاستسلام”. (ص81).
كان د. الربيعي شخصية فريدة، ولا شك أنه ترك برحيله فراغاً يشعر به كل معاصريه ومحبيه.
نواصل عرض كتاب د. عبدالله المدني في مقالات قادمة!