(الصورة: طرابلس اللبنانية تنتفض!)
أقرت الحكومة اللبنانية، بعد جهود مضنية، سلسلة من الإجراءات التي لا بأس بها من أجل وضع حدّ للعجز في الموازنة وتوفير أمل للمواطن العادي بتحسين وضعه المعيشي. كان الهدف من كلام رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، بعد جلسة للحكومة، نزع فتيل الأزمة التي يعاني منها لبنان والتي أدت إلى نزول نصف الشعب الى الشارع. لم يخف الحريري تعاطفه مع المتظاهرين، مبدياً كلّ تفهّم للأسباب التي دعت الى قيام ما يمكن وصفه بـ«ثورة شعبية لبنانية» على كلّ المستويات الشعبية وفي كلّ المناطق والطوائف.
فيديو: تحية طرابلسية لشعب البنطية الذي قمعه حزب الله وحركة أمل
https://www.facebook.com/ali.mourad/videos/10162608184545512/?t=5
ما ظهر واضحاً، من خلال ما شهده لبنان يوم الاثنين، أن المواطن العادي لا يؤمن بالطقم السياسي الذي يحكم بالبلد ولا بالنظام الذي فرضه «حزب الله» على اللبنانيين والذي جعل لبنان يمرّ بسلسلة من الأزمات وصولاً إلى الأزمة الأخطر المتمثّلة في وضع النظام المصرفي اللبناني الذي يبقى وحيداً العمود الفقري للاقتصاد بعدما أمعن «حزب الله» في عزل لبنان عن محيطه العربي.
ليست المشكلة في الإجراءات الإصلاحية التي أعلن عنها سعد الحريري، وهي إجراءات كان مفترضاً إقرارها وبدء العمل بها قبل سنوات عدّة. تكمن المشكلة بكلّ بساطة في أنّ لا وجود لفريق عمل متجانس قادر على تنفيذ خطّة إنقاذية بدل أن يكون لبنان مجرّد ورقة إيرانية لا أكثر.
ما لا مفرّ من العودة إليه، أنّ من بين أسباب فقدان الدولار في السوق اللبنانية إغراق السوق بالعملة السورية من أجل شراء العملة الأميركية وذلك بغية تغطية عمليات شراء النفط لسورية أيضاً وليس للبنان وحده…
يجد لبنان نفسه في وضع لا يحسد عليه. يتجاوز الأمر ورقة إصلاحات اقتصادية في ظلّ عجز مستمرّ عن معالجة أيّ مشكلة مطروحة، بدءاً بالكهرباء وصولاً إلى النفايات. كلّ ما في الأمر أن تغييراً في العمق حصل في تركيبة النظام اللبناني فرضه «حزب الله» الذي يصرّ على تشكيل حكومات تقع تحت سيطرته لا مكان فيها لأيّ قدرة على النقاش الجدّي والأخذ والردّ. ما سمّاه «حزب الله»، الذي أتى برئيس الجمهورية الحالي وفرضه على اللبنانيين، بـ«الديموقراطية التوافقية» ليس سوى الطريق الأقصر لفرض ديكتاتورية ونظام متسلّط على لبنان واللبنانيين بغية تحويله الى مستعمرة إيرانية.
ما نشهده حالياً هو سعي إيراني للحلول مكان الوصاية السورية التي بدأت في 1990، والتي مهّد لها اغتيال الرئيس رينيه معوّض. بعد اغتيال رينيه معوّض، في 1989، صار اتفاق الطائف الذي في أساس الدستور اللبناني الحالي ينفّذ على الطريقة السورية. بعد اغتيال رفيق الحريري في 2005، صار مطلوباً تنفيذ اتفاق الطائف على الطريقة الإيرانية. ألم يقل قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني، بعد إعلان نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة في لبنان (في آيّار مايو 2018) ان «الجمهورية الإسلامية» صارت تمتلك أكثرية في البرلمان اللبناني؟
ليس تدفّق اللبنانيين على وسط بيروت مباشرة بعد إعلان سعد الحريري عن الورقة الإصلاحية التي أقرّت في مجلس الوزراء سوى دليل على رغبة شعبية في الذهاب إلى أبعد. هناك حاجة الى تغيير في العمق في لبنان، تغيير يعيد البلد إلى وضعه الطبيعي. هذا يعني بوضوح عودة لبنان إلى العيش في ظلّ نظام ديموقراطي فيه حكومة وفيه معارضة مهمّتها محاسبة هذه الحكومة وليس إيجاد شراكة بين الزعماء السياسيين بهدف التغطية المتبادلة على الفساد والهدر والتهريب.
لا شكّ أنّ لدى سعد الحريري كلّ النيّات الطيبة، لكنّ العين بصيرة واليد قصيرة، خصوصاً أنّ معظم العرب سحبوا يدهم من لبنان. سدّت في وجهه كلّ المخارج وذلك في وقت لم يعد سرّاً أن المواطنين العاديين، من كلّ الطوائف، ملّوا من ممارسات رئيس «التيّار الوطني الحرّ» جبران باسيل الذي يعتقد أن تزلّفه لـ«حزب الله» سيوصله إلى رئاسة الجمهورية.
ليس العرب وحدهم الذين سحبوا يدهم من لبنان. هناك إدارة أميركية تتصرّف تجاه لبنان في الوقت الحاضر، تماماً كما تصرّفت إدارة باراك أوباما تجاه ثورة الشعب الإيراني في العام 2009. تفادياً لإزعاج ملالي إيران، تخلّى أوباما عن الشعب الإيراني كما تخلّى لاحقاً عن الشعب السوري. كان هدفه التوصّل إلى الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني بغض النظر عمّا يحلّ بالإيرانيين والسوريين. تحقّق له ما أراد صيف العام 2015. ما الذي يريده دونالد ترامب هذه الأيّام؟ ما هو نوع الصفقة التي تُطبخ مع إيران أو مع غير إيران والتي تجعله لا يرى ما الذي يحصل في لبنان؟
إلى جانب ما تشهده بيروت، هناك قمع مورس في جنوب لبنان واستهدف الشيعة الذين انتفضوا في وجه عهد «حزب الله» في لبنان. هؤلاء أظهروا أنّهم لبنانيون أوّلاً وأن كلّ ما يقال عن غياب أي مقاومة للهيمنة الإيرانية على شيعة لبنان غير صحيح إطلاقاً.
إذا لم يكن هناك اقتناع بوجود تحرّك شيعي حقيقي في مقاومة «حزب الله» ومن لفّ لفّه، تكفي نظرة إلى ما تشهده مدينة طرابلس ذات الأكثرية السنّية للتأكد من أنّ اللبنانيين ما زالوا متمسّكين بثقافة الحياة. عمل كثيرون في لبنان، من بينهم «حزب الله» على وصف طرابلس بأنّها قندهار. كشفت طرابلس، التي لم تنم طوال الأيام الأربعة الماضية على صوت الموسيقى الصاخبة معلنة انضمامها للثورة على عهد «حزب الله»، وجهها الحقيقي. انّها مدينة لبنانية أخرى ترفض الظلم.
من لا يعرف طرابلس، لا يعرف أنّها مدينة ترفض ثقافة الموت وإلصاق تهمة الإرهاب والتعصّب والتزمت بها. عمل النظام السوري طويلا من أجل زرع الطائفية والمذهبية في طرابلس. أثار السنّة على المسيحيين ثم أثار العلويين على السنّة. ارتكب كلّ أنواع المجازر من أجل إخضاع المدينة. لكنّ طرابلس بقيت لبنانية، على الرغم من أنّها امتداد طبيعي لحمص وللساحل السوري… ولكلّ أهل السنّة السوريين الذين يتعرّضون للظلم والقهر والقمع بأشكالهم المختلفة منذ نصف القرن.
هناك رسالة من أهل الجنوب الشيعة وهناك رسالة من أهل طرابلس السنّة والمسيحيين. هناك انتماء إلى لبنان أكثر من أي وقت. هذه الرسالة التقطها سعد الحريري من خلال كلمته التي أعلن فيها عن الإصلاحات والتي أكد فيها وقوفه مع المتظاهرين. هؤلاء يصنعون المستقبل، هؤلاء يتلون من خلال مقاومتهم لـ«حزب الله» فعل ايمان بلبنان.
تبقى الحاجة إلى ما هو أهمّ من الإصلاحات. الحاجة الحقيقية الى فريق عمل ينفّذ الإصلاحات وليس إلى شراكة بين مجموعات لا همّ لها سوى نهب البلد. الحاجة بكلّ بساطة الى الانتهاء من عهد «حزب الله» ورموزه المسيحية. من دون ذلك، لا أملّ بتحقيق الثورة اللبنانية أي وعد من وعودها!