ثلاثة حوادث مهمة تشير إلى تغييرات في المنطقة ولبنان؛ أولها الاتفاق النووي مع إيران، ثانيها “الربيع” العراقي، وثالثها المفاوضات الجارية لتحديد مستقبل سوريا. فهل يستطيع لبنان أن يغتنم هذه الفرص الثلاث، ليحرّر ربيعه المذبوح من المصير المشؤوم؟
الحدث الأول يتعلق بالاتفاق حول النووي بين إيران والمجتمع الدولي، الذي ينهي حقبة تاريخية بدأت في العام 2003، تخللها تصعيد في أكثر من مكان؛ في لبنان مع حرب تموز (2006)، في غزة مع سيطرة “حماس” (2007)، في بيروت مع حوادث 7 أيار (2008)، وصولاً أخيراً الى اليمن.
شكّلت رسالة وزير خارجية إيران في جريدة “السفير” (3-8-2015) إشارة إلى رغبة في تغيير السلوك الإيراني تجاه العالم العربي، مع الحديث عن علاقات حسن الجوار واحترام سيادة الدول والدعوة للتشارك في معالجة أزمات المنطقة. لا يزال هذا التحول في بدايته وينبغي انتظار أفعال ملموسة للتأكد من الوجهة التي تسلكها إيران في المستقبل.
الحدث الثاني، هو هذا “الربيع” العراقي الذي لم يكن أحد يتوقع حدوثه، والذي تمثّل في تظاهرات شعبية تطالب بتحقيق إصلاح فعلي في إدارات الدولة، لإنهاء نظام المحاصصة.
الحدث الثالث يتمثل في المفاوضات الجارية على أكثر من صعيد وفي غير مكان لبتّ مستقبل النظام في سوريا وتحديد طبيعة المرحلة الانتقالية الواجب اعتمادها.
في لبنان، نشهد نهاية حقبة تاريخية طويلة بدأت في منتصف الستينات مع صعود الأحزاب والقوى الطائفية التي حلّت مكان التكتلات السياسية العابرة للطوائف والتي مارست عنفاً على مستويين: داخل كل طائفة لتعيين من يمثلها على صعيد الدولة، وما بين القوى الطائفية لتعيين حصة كل منها في الدولة.
أعاقت تلك الصراعات نموّ المجتمع، وأبقت البلد في حالة “حرب باردة”، كما أضعفت مناعة اللبنانيين حيال التطورات الجارية في المنطقة، فمهّدت، بذلك، الأرض اللبنانية لاستقبال الحرب “الساخنة” في العام 1975.
بدأ عصر “المقاومات”، من “المقاومة اللبنانية” إلى “المقاومة الوطنية” وصولاً إلى “المقاومة الاسلامية”، ودخلنا زمن “حروب الالغاء”، وآخرها تلك التي يخوضها “حزب الله” في سوريا.
الإشارة الأكثر تعبيراً عن نهاية هذا الزمن، أتت من التيار العوني الذي استخدم كل الشعارات الطائفية للإستنفار المسيحي، فجاء ببضعة مئات إلى ساحة كانت قبل سنوات قد جمعت مئات الألوف منهم، جنباً إلى جنب مع المسلمين.
نهاية هذه الحقبة التاريخية لا تعني نهاية الأزمة الوطنية. فلا يزال البعض أسير تصورات سياسية وإيديولوجية تزيّن له أنه يخوض معركة الحقّ الأخيرة ضدّ معسكر الباطل، ولن تنتهي هذه الحرب إلا بانتصاره الموعود. ولا يزال البعض الآخر مسكوناً بشهوة السلطة، في حين أن قوى أخرى لا تزال تنتظر ما قد يحصل في الخارج للتكيّف مع نتائجه، من دون المبادرة إلى مواجهة خطر انهيار الدولة ومؤسساتها. إن انهيار هذه الحقبة التاريخية لن يكون فعلياً الا إذا بدأ العمل على وضع الأسس لحقبة تاريخية جديدة.
تبدأ الخطوة الأساس في هذه المجال بإعادة الاعتبار الى التسوية التاريخية التي رسمها اتفاق الطائف والتي تتسع للجميع بعيداً من منطق الغالب والمغلوب، الذي استهوى، على مراحل، كل من استخدم العنف وسيلةً لتحقيق غايات سياسية.
هذه التسوية تحتاج الى عملية إعادة اعتبار، بعد التشويه الذي طالها، نتيجة تولي سلطة الوصاية السورية عملية وضع الاتفاق موضع التطبيق، ونتيجة اختزال الاتفاق بمنطق المحاصصة من قبل القوى الطائفية التي عملت على تعطيله بحجة أن التوافق يعطي الأقلية السياسية حقّ تعطيل خيارات الأكثرية.
اتفاق الطائف هو تسوية تاريخية لأنه يُجري مصالحة في داخل كل واحد منا بين انتماءاته المتعددة، فيُقرّ في آن واحد بحقّنا في التنوع وبحقّنا في المواطنة على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات.
هذه التسوية التاريخية هي حاجة لطيّ صفحة الماضي ومعالجة ما تسببت به تعبئة النفوس من فتن وصراعات طائفية ومذهبية في لبنان والعالم العربي الذي يشهد حرباً دينية تشبه إلى حدّ بعيد “حرب الثلاثين سنة” التي دمّرت المجتمعات الأوروبية من البلطيق إلى المتوسط، في مواجهات دامية ما بين الكاثوليك والبروتستانت.
هذه التسوية هي المدخل لإعادة الاعتبار إلى نموذج العيش اللبناني المشترك، الذي يكتسب اليوم أهمية مضاعفة في إزاء موجة العنف الطائفي التي تجتاح منطقتنا، والآخذة في الامتداد إلى أوروبا وأفريقيا. وذلك بتظهير فرادة التجربة اللبنانية في العالم أجمع، من حيث شراكة المسلمين والمسيحيين – بصفتيهم هاتين – في إدارة الدولة، وفرادة هذه التجربة في العالم الإسلامي بخاصة، من حيث شراكة السنَّة والشيعة – بصفتيهم هاتين – في إدارة الدولة.
هذه التسوية هي الشرط لإعادة بناء عيشنا المشترك بشروط الدولة، والكفّ عن اعتبار هذه الدولة حقلاً للصراع والتقاسم بين أحزاب طائفية. إن الدولة القائمة على هذه التسوية ينبغي أن تكون في الضرورة دولةً مدنية، حيث القانون – بوصفه تعبيراً عن إرادة عامة – يسري على الجميع دونما تمييز، وحيث العدالة مستقلةٌ تماماً عن السلطة التنفيذية، وحيث في إمكان المواطن الفرد أن يختار قانوناً مدنياً لأحواله الشخصية، وحيث لا تقع المرأة ضحية معايير تمييزية، وحيث لا تكون الإدارة العامة حقلاً للزبائنية على اختلاف أنواعها، وحيث مشاركة المواطن في الحياة العامة مكفولةٌ بقانون انتخابات حديث…
أخيراً، تفسح هذه التسوية في المجال أمام انهاء الانقسام العمودي القائم منذ سنوات واستبداله بفرز من طبيعة مختلفة. فرزٌ بين:
الذين استخلصوا دروس الحرب، أو الحروب، من مختلف الطوائف، وأدركوا أهمية الوصل والشراكة مع الآخر المختلف الذي – على اختلافه – يكوّننا مثلما نكوّنه، وهو شرطُ وجودنا كما نحن شرطُ وجوده في مشروع العيش معاً.
والذين، من مختلف الطوائف أيضاً، لم يغادروا كهوف عصبياتهم الطائفية والمذهبية، ولا يزالون يعتبرون الآخر المختلف مصدر تهديد لوجودهم.
على قاعدة هذا الفرز الجديد، ينبغي نسج علاقات شركة وتضامن عابرة للطوائف والمناطق، في ما بين الذين يرفضون العنف ويبدون استعداداً للنضال معاً ضد كل أنواع التطرّف.
نُشِر في ملحق “النهار”