ليس اصعب من اقناع لبنانيين بأن لا شيء يستحقّ التظاهر، أي النزول إلى الشارع البيروتي باستثناء التخلص من سلاح “حزب الله”. لا قضية في لبنان تستأهل التظاهر من أجلها سوى قضية التخلّص من سلاح “حزب الله” وهو سلاح في تصرّف ميليشيا مذهبية تشكل لواء في “الحرس الثوري الإيراني”.
كل ما عدا ذلك تفاصيل، بما في ذلك ازمة النفايات، على الرغم من خطورتها، التي تحاصر اللبنانيين. هذه الأزمة ما كانت لتحصل لولا سلاح “حزب الله” الذي يمنع الدولة اللبنانية أن تكون دولة في خدمة جميع اللبنانيين. كان هناك مشروع واضح ومحدد لمعالجة مشكلة النفايات في عهد حكومة الرئيس سعد الحريري في العام 2010. المشروع موجود وهو حيّ يرزق. قرّر “حزب الله” وقتذاك، أي قرّرت ايران التخلص من الحكومة اللبنانية والمجيء بحكومة خاصة بالحزب، لا هدف لها سوى إذلال السنّة والمسيحيين، على رأسها شخصية سنّية، هي نائب طرابلس السنّي نجيب ميقاتي.
كانت هناك حكومة شكّلها “حزب الله”. لم تستطع هذه الحكومة حلّ أي مشكلة. الأكيد أن نجيب ميقاتي، الذي استخدم لغة التهويل على اللبنانيين لتبرير قبوله المهمة التي اوكلت اليه، سيتذرع بأنّه حال دون انفجار الوضع في البلد. يقول أنّه رجل “شهم” اراد خدمة البلد وتأجيل المواجهة السنّية ـ الشيعية التي نشهد اليوم فصلا من فصولها.
لكنّ الأكيد أيضا أنّ نجيب ميقاتي لم يكن سوى اداة استخدمها “حزب الله” لتمرير مرحلة فوجئ خلالها باندلاع الثورة الشعبية في سوريا. اضطرته تلك الثورة إلى مراجعة حساباته. كان لا بدّ من تلك المراجعة بعدما اكتشفت ايران أنّ نظام بشّار الأسد الأقلوي ليس نظاما قابلا للحياة وأنّ لا مستقبل له وأن عليها البحث عن بديل منه. البديل الإيراني واضح كلّ الوضوح. إنّه الدويلة العلوية على جزء من سوريا. هذه الدولة في حاجة إلى من يحمي ظهرها، أي إلى ممرّ يربطها بدويلة أخرى، هي دويلة “حزب الله” في لبنان.
يحبّ اللبنانيون اضاعة الوقت. لدى بعضهم حنين إلى السبعينات، أي إلى الشعارات التي اطلقت ضد الدولة اللبنانية التي كانت في حاجة قبل كلّ شيء إلى من يعينها على السلاح الفلسطيني الذي اغرق به حافظ الأسد لبنان به تمهيدا للسعي إلي وضع اليد عليه. وجّه قسم من اللبنانين غضبهم على الدولة اللبنانية، من أجل تدميرها، بدل أالتركيز على السلاح الفلسطيني الذي عاد بالويل على اللبنانيين والفلسطينيين وقضيتهم العادلة في آن.
بعد ما يزيد على اربعة عقود، تستخدم الشعارات ذاتها ضدّ الدولة اللبنانية، فيما لم يتعلّم اللبنانيون شيئا من تجارب الماضي القريب. هذه المرّة حلّ الإيراني مكان النظام العلوي في سوريا. كلّ ما تبقى اضاعة للوقت. السلاح الفلسطيني والميليشيوي، بما في ذلك سلاح الميليشيات المسيحية، الذي كان في معظمه من سوريا، حلّ مكانه سلاح “حزب الله”. سلاح الحزب يقاتل الآن الشعب السوري في داخل سوريا مستندا إلى منطق مذهبي ولا شيء آخر غير ذلك.
هذا السلاح يمنع ايضا قيام دولة لبنانية تهتمّ بشؤون لبنان، بما في ذلك النفايات. هذا السلاح يفرض على اللبنانيين اسوأ نوع من الوزراء، بما في ذلك وزير للخارجية يدعى جبران باسيل همّه الأول والأخير ارضاء ايران. هناك وزير للخارجية اللبنانية، يجعل المرء يترحّم على فارس بويز وفوزي صلوخ وعلي الشامي وعدنان منصور…
لا يعرف الوزير باسيل شيئا يذكر عن الإقليم الذي يعيش فيه لبنان. لا يعرف شيئا خارج البترون الآتي منها والمرفوض من اهلها، ولا يعرف شيئا عن لبنان والطوائف اللبنانية ولا يعرف شيئا عن العالم العربي، خصوصا عن سوريا. لا يعرف خصوصا ما هي ايران ومدى الحساسية العربية، خصوصا السعودية والخليجية تجاه المشروع التوسّعي الإيراني القائم على اثارة الغرائز المذهبية واستغلالها إلى أبعد حدود.
الدولة اللبنانية ليست دولة نموذجية. على العكس من ذلك، هناك نواقص كثيرة لدى هذه الدولة. لكنّ محاكمة الدولة اللبنانية، بما في ذلك، على سبيل المثال الإتيان بمحمد المشنوق وزيرا للبيئة، أو حتّى وزيرا، لمجرد أنّه كان وفيّا لتمام سلام، ليس المسألة الأساسية. المسألة الأساس أنّ لبنان يعاني قبل أي شيء من وجود قوّة خارجية تتحكّم به. هناك، بكلّ صراحة، وصاية ايرانية حلّت مكان الوصاية السورية ـ الإيرانية وذلك منذ اضطر السوري إلى الإنسحاب في السادس والعشرين من نيسان ـ ابريل 2005 نتيجة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه.
هناك سبب واحد يمكن ان يدفع اللبنانيين إلى التظاهر والنزول إلى الشارع. هذا السبب هو سلاح “حزب الله” وما يرتكبه الحزب في حق لبنان واللبنانيين وسوريا والسوريين. كلّ ما عدا ذلك مجرّد سقوط في الفخّ الإيراني وتجاهل لكون ايران تستخدم “حزب الله” واداته المسيحية المسماة ميشال عون من أجل منع انتخاب رئيس للجمهورية.
مرّة أخرى، المطلوب تفادي السقوط في الفخّ الإيراني في وقت يبدو ضروريا أن يتذكّر اللبنانيون أنّ مشكلة النفايات نتيجة مباشرة لإسقاط حكومة سعد الحريري بقوّة السلاح غير الشرعي الذي يمتلكه “حزب الله” والميليشيا المذهبية التي يمتلكها.
كلّ القضايا اللبنانية قابلة لحلّ. قضايا المياه والنفايات والكهرباء والأمن وما يدعيه احدهم عن دفاع عن حقوق المسيحيين، قضايا قابلة للحلّ في اسرع مما يعتقد. الشرط الوحيد للوصول إلى حلول طرح الموضوع ـ القضية، أي ما العمل بسلاح “حزب اللّه” الذي ينهش في الجسد اللبناني. هذا الموضوع ـ القضية هو الوحيد الذي يستأهل النزول إلى الشارع بدل توفير غطاء للغوغاء والغوغائيين الذين لا همّ لهم سوى نشر البؤس بدءا بالتدمير الممنهج لثقافة الحياة والرغبة في الإنتماء إلى العالم المتحضر اللتين يعبرّ عنهما وسط بيروت الذي يظلّ إلى اشعار آخر القلب النابض للبنان المتصالح مع نفسه وللعيش المشترك ولقدرة الوطن الصغير على النهوض مجددا.
مرّة أخيرة، هناك لبنانيون صادقون نزلوا إلى الشارع من أجل مطالب محقّة. يفترض بهؤلاء أن يتذكروا امرا واحدا. هذا الأمر هو المبالغ التي صرفت على الكهرباء في وقت كان هناك اصرار سوري منذ تسعينات القرن الماضي، ثمّ ايراني في مرحلة الوصاية الجديدة، على تولي وزراء معينين ينتمون إلى جهة معينة حقيبة الموارد المائية والكهربائية.
ليس صدفة انتقال لبنان من فشل إلى آخر في مجال الكهرباء، في حين يفترض على كلّ من لديه بعض من ذاكرة استعادة أنّ رفيق الحريري اعاد الكهرباء في 1996 متجاوزا كلّ العراقيل، بما في ذلك الوزير الذي كان يصرّ اركان النظام السوري على أن يكون المسؤول عن الكهرباء، كي يتقاسموا العمولات معه… من أجل أن لا تعود الكهرباء يوما!
يمكن أن يحطّم لبنانيون وسط بيروت. يمكن أن يفعل هؤلاء الكثير من أجل تدمير البلد ومؤسساته، تماما كما فعل اباؤهم في سبعينات القرن الماضي. هذا لا يمنع التأكيد مجددا أن القضية الوحيدة التي تستحق التظاهر من أجلها هي قضية التخلص من سلاح “حزب الله”. هل من يعي ذلك… أم المطلوب مرّة أخرى جعل لبنان يدفع ثمن حروبه الداخلية وحروب الآخرين على ارضه، وهي حروب كلّفت ابناءه، خصوصا المسيحيين منهم، ثمنا غاليا، بل غاليا جدا.