تبدو مجموعة الإجراءات التي اتخذها مجلس الوزراء العراقي برئاسة الدكتور حيدر العبادي أقرب إلى اعتراف بالعجز عن امكان الغوص في عمق الأزمة التي يعاني منها البلد والمتمثّلة في المذهبية من جهة والسقوط تحت هيمنة ايران والميليشيات التابعة لها من جهة أخرى. ففي العراق، حلّت المذهبية بديلا من الشعور بالإنتماء إلى وطن يكون لجميع العراقيين.
كلّ معالجة تبتعد عن هذا الواقع أقرب إلى معالجة مريض مصاب بداء السرطان بواسطة الأسبيرين.
شملت الإجراءات التي اتخذتها حكومة العبادي الغاء منصب نائب رئيس الجمهورية الذي يشغله رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، كذلك الدكتور أياد العلّاوي اسامة النجيفي. وقد تظاهر المالكي بقبول الغاء منصبه في مناورة ذكيّة من جانبه تستهدف تنفيس الإحتقان الشعبي تجاه ممارساته كرئيس للوزراء طوال ثماني سنوات، لكنّه ما لبث أن اتخذ موقفا معارضا لما قرّرته الحكومة.
يعرف المالكي أنّه مستهدَف وأنّه يبدو مطلوبا تقديمه كبش فداء في ضوء التظاهرات التني تشهدها المدن العراقية، بما في ذلك بغداد والبصرة. هذه التظاهرات ليست سوى ردّ شعبي صادق على الحال التي وصل إليها العراق. تعبّر هذه الحال بوضوح عن افلاس الدولة العراقية التي لم تستطع التعاطي مع التطورات التي توالت منذ سقوط النظام العائلي ـ البعثي لصدّام حسين في نيسان ـ ابريل 2003، يوم دخول القوات العراقية بغداد وحملها رؤوس الميليشيات الشيعية، التابعة لأحزاب مدعومة من ايران، إلى السلطة.
ليس دفاعا عن نوري المالكي. الرجل لا يمثّل سوى مرحلة كان لا بدّ من العراق أن يمرّ بها بعد الإنسحاب العسكري الأميركي وتسليم البلد، مجدّدا، على صحن من فضّة الى ايران. كانت ايران منذ اللحظة الأولى شريكا في الحرب الأميركية على العراق. انتظرت اللحظة المناسبة للإنقضاض على البلد بعدما قرّر الأميركيون الإنسحاب عسكريا من البلد تنفيذا للوعود التي قطعها باراك اوباما خلال حملته الإنتخابية التي سبقت وصوله إلى البيت الأبيض في العام 2008.
لا يمكن توجيه أي لوم إلى نوري المالكي، على الرغم من أنّه متعصب مذهبيا ولا يؤمن سوى بالعراق الشيعي. حاول المالكي السير في نهج مستقلّ نسبيا، لكنّه ما لبث أن سقط كلّيا تحت التأثير الإيراني ونفوذ ايران إبتداء من العام 2010، تاريخ حصول انتخابات نيابية حلّت فيها لائحته في الموقع الثاني، خلف لائحة أيّاد علاوي المدعوم عربيا.
من أجل أن يبقى رئيسا للوزراء استسلم المالكي لإيران في ظلّ تفاهم بين واشنطن وطهران مهّد لاحقا للإتفاق النووي الذي أمكن التوصّل إليه حديثا.
استطاعت ايران اخضاع المالكي الذي كان يريد البقاء في موقع رئيس الوزراء بأيّ ثمن كان. اصبح المالكي ابتداء من اواخر 2010، مجرّد رهينة لدى ايران. لم يعد يشبه سوى “حزب الله” في لبنان…أو بشّار الأسد في سوريا، أو عبد الملك الحوثي في اليمن.
صارت حكومته مجرّد تابع لإيران واداة من ادواتها في المنطقة. هل في استطاعة حيدر العبادي، الذي يعلن رغبته في محاكمة الفساد، محاكمة ما كان في الواقع حكومة ايران في العراق؟
ليست المسألة مسألة فساد يعترض عليها العراقيون الذين نزلوا إلى الشارع ويريدون معرفة مصير عشرات مليارات الدولارات التي تبخّرت في السنوات القليلة الماضية والتي لم تستطع أن تأتي لهم بالكهرباء التي كانت متوافرة في عهد صدّام حسين. كانت الكهرباء متوافرة، إلى حدّ ما طبعا، حتّى في ظل الحصار الدولي الذي تسبّب به صدّام نفسه الذي لم يدرك يوما معنى التعاطي مع موازين القوى في المنطقة والعالم.
تجاوز الوضع العراقي حيدر العبادي والإصلاحات التي أقدم عليها. لم تعد المسألة مسألة مرتبطة بما ارتكبه نوري المالكي الذي اغرق العراق في الفساد والطائفية والمذهبية ووفّر كلّ المطلوب منه ايرانيا لدعم النظام في سوريا. كان هذا الدعم من منطلق مذهبي ليس إلّا.
لماذا لا يمكن الرهان على العبادي وعلى حملته على الفساد؟ الجواب أنّه لا يمكن في أي شكل الإتكال على رئيس للوزراء في العراق يعتبر أن مرجعيته الدينية فوق كلّ مرجعيّة أخرى. المنطق يقول أن مرجعية الحكومة العراقية هي مواد الدستور ومجلس النوّاب أوّلا. منهما تستمد شرعيتها وليس من أي مكان آخر. من يلجأ إلى المرجعية الدينية ولا يستحي في ذلك، إنّما يريد تحويل العراق إلى جمهورية اسلامية أخرى تدار من النجف على غرار الجمورية الإسلامية في ايران. يريد جعل العراقيين يترحّمون على عهد صدّام حسين. اليوم، هناك المرجع الأعلى آية الله السيستاني الذي تقدّم في العمر. غدا، سيكون المرجع نائب الولى الفقيه الذي عيّنه حديثا “المرشد” الخامنئي ممثلا له في النجف. هذا يعني في طبيعة الحال أن الجمهورية الإسلامية في العراق ستدار من خامنئي، أو من من خليفته، لاأكثر ولا أقلّ.
لا حاجة إلى إضاعة كثير من الوقت في جدل يتعلّق بما يستطيع أن يفعله حيدر العبادي المنتمي إلى حزب “الدعوة”، وهو حزب مذهبي، يشكّل نسخة شيعية عن الإخوان المسلمين لدى السنّة.
في نهاية المطاف، هناك انهيار للدولة العراقية. أفضل تعبير عن هذا الإنهيار أن يعتبر العبادي المرجعية الدينية مرجعيته. أين الدستور العراقي؟ أين مجلس النوّاب؟
الأخطر من ذلك كلّه أن الإجراءات التي اعلن عنها رئيس الوزراء العراقي لا تتناول من قريب أو بعيد “الحشد الشعبي”، وهو مجموعة ميليشيات مذهبية تشكّل الوية في “الحرس الثوري” الإيراني، حلّت مكان الجيش العراقي بحجة أنّها تشكّل دعما له.
ما موقف العبادي من “الحشد الشعبي” الذي يخدم “داعش” ولا دور له سوى تنفيذ عمليات تطهير عرقي في العراق؟ لا تزال تكريت شاهدا على ممارسات “الحشد الشعبي” التي تتلخّص بالإنتقام من السنّة بحجة أن صدّام حسين كان سنّيا وأنّه من العوجة القريبة من تكريت.
تجاوزت الأحداث حيدر العبادي وحكومته واجراءاته. ليس لدى الرجل مشروع وطني للعراق. كلّ ما لديه مشروع لترقيع مشروع نوري المالكي. هذا المشروع الإيراني لا ينطلي على العراقيين الذين لا يبحثون عن الكهرباء ولا عن مصير عشرات مليارات الدولارات فحسب، بل يبحثون أيضا عن مشروع وطني ينصف كلّ مواطن بغض النظر عن طائفته ومذهبه وقوميته، مشروع يعيد العراق إلى العراقيين لا أكثر ولا أقلّ…
ولكن هل من أمل في انقاذ العراق في نهاية المطاف…أم فات أوان ذلك؟