”اسمحوا لي، سيادة الرئيس، أن ألفت عنايتكم إلى ميزة يتفرّد بها مطلبنا هذا؛ وهي أنه للمرة الأولى في الشرق هناك من يريد إحلال “الوطنية السياسية” محلّ “الوطنية الدينية”. وهذا أمرٌ عظيم الشأن..”
البطريرك الحويك في باريس في ١٩١٩
*
”المارونية السياسية” تعبير ”صحفي” أعتقد أن جريدة ”السفير” اخترعته في سنوات الحرب الأهلية، أي في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، وفي وضع انحدر فيه اللبنانيون بمعظمهم (بما فيهم موارنة لبنان وأحزابه) إلى حالٍ من “البربرية” لا يسرّ أحداً الخوض فيه مجدّداً ولكنه لا يصلح مقياساً لما سبق، ولما لحق. مثلما لا يمثّل الجنرال عون “مقياساً” لحال الموارنة وسياساتهم.
هذا التعبير الصحفي يعتمده صادق جلال العظم بدون تمحيص، والأهم بدون ”تعريف”!
كيف أمكن للصديق العزيز صادق أن يخلط “شعبان برمضان”، وبالأحرى “الأشرفية بالقرداحة” في
في مقابلته الممتعة مع ”دويتشه فيله”، التي أعاد ”الشفاف” نشرها؟
وإذا كانت “الأنظمة برجالها”، فكيف أمكن له أن يقارن (ضمنياً، طبعاً) حافظ الأسد، وبشار الأسد، وعلي دوبا، ومحمد ناصيف، وعلي حيدر، وغازي كنعان، وبقية الشلّة، بفؤاد شهاب وكميل شمعون وريمون إده والبطريرك صفير، وفؤاد أفرام البستاني، وسعيد عقل، و..؟
هل يعرف الصديق صادق إسم “الضابط الماروني” الذي ركب دبابته ليستولي على السلطة في بيروت، كما فعل حافظ الأسد، وصلاح جديد، وأمين الحافظ، و.. حسني الزعيم؟
وكيف أمكن للصديق صادق أن يقارن بين النظام السياسي والدستوري والثقافي، وأوضاع الصحافة والحريات العامة، والتعليم، والتعليم الجامعي، ما بين “سوريا الأسد” و”لبنان الماروني” المُتوهّم؟
كيف لم يلاحظ أن ما يسمّيه “المارونية السياسية”، وهي في الحقيقة “النظام اللبناني بحسناته وسيّئاته” (“الميثاق الوطني” هو أحد أسس هذا النظام اللبناني) يُحظى، الآن، بتأييد أغلبية اللبنانيين، ويحظى حتماً بتأييد أغلبية العرب، لو أجري استفتاء “ديمقراطي” (بالمقاييس الأوروبية) سواءً في لبنان أو حتى على مستوى المنطقة العربية؟
بحثاً عن “تعريف”
”يطابق” صادق العظم بين ما يسمّيه ”العلوية السياسية” وما درجت تسميته “المارونية السياسية”. فهو يقول بالحرف: “يجب التأكيد دوماً أن المطلوب هو الإطاحة بالعلوية السياسية وليس بالطائفة العلوية، تماما كما حدث في لبنان. حيث تمت الإطاحة بالمارونية السياسية..”!!
للوهلة الأولى، لا يعطي صادق العظم ”تعريفاً” لـ”المارونية السياسية”، ولكنه يعطي تعريفاً للطائفية ”الأخرى” المطابقة، وهي ”العلوية السياسية”. فما هي ”العلوية السياسية”، أي ”المسطرة” التي نستنتج منها تعريفاً لـ”المارونية السياسية”؟
يجيب صادق:
”الواقع المطلوب التقاطه يمكن تحديده عبر التجربة الذهنية التالية: هل بإمكانك أن تتصور سيادة الوضع التالي في مصر: رئيس الجمهورية قبطي إلى الأبد، قائد الجيش قبطي إلى الأبد، أُمراء ضباط القوات المسلحة في غالبيتهم أقباط وإلى الأبد، رؤوساء الفروع الأمنية والشرطة وقوات حفظ النظام أقباط كلهم وإلى الأبد، المناصب الحساسة والعليا وصاحبة القرار في مفاصل الدولة كلها بيد نخب من الأقلية القبطية؟ هل بإمكانك أن تتصور كذلك، احتكار هذه المناصب والوظائف كلها في تركيا مثلاً من جانب نخب كردية أو علوية حصراً وإلى الأبد؟ هذا الوضع غير القابل للتصور في مصر وتركيا هو القائم في سوريا منذ عقود طويلة. هذا هو المعنى الأول للعلوية السياسية وهذا هو السبب في استحالة استمرارها مهما كرّر رموزها عبارة “إلى الأبد” وحاولوا تكريس طقوسها.”
هل هذا هو التعريف الضمني لـ”المارونية السياسية” الذي يستند إليه صادق العظم؟ هل كان الوضع كذلك في لبنان، في الماضي، أو حالياً؟
ببساطة، هل احتكر الموارنة رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش ومناصب “أمراء ضباط القوات المسلحة”، ومناصب رؤوساء الفروع الأمنية والشرطة وقوات حفظ النظام، وكذلك المناصب الحساسة والعليا وصاحبة القرار في مفاصل الدولة كلها؟
”الموارنة” او حتى ”المسيحيون” بإجمال طوائفهم لم يحتكروا هذه المناصب، كما يعرف الصديق صادق. فقط ”احتكروا” رئاسة الجمهورية (بعد ١٩٤٣ فقط، فقبل ذلك كانت الرئاسة لـ”المسحيين” بمختلف طوائفهم)، وقيادة الجيش، ومديرية الأمن العام التي انتقلت الآن للشيعة. ويمكن أن نضيف أن السنّة ”احتكروا” رئاسة الوزارة، والشيعة ”احتكروا” رئاسة مجلس النوّاب. ولفترة طويلة، كانت وزارة الدفاع للدروز، والخارجية للكاثوليك، إلخ.
أين ”الغَلَبة” المسيحية؟
وهذا كله في إطار تسويات عُرَفت بـ”الميثاق الوطني”. وهذه ”التسويات” هي أقرب إلى ”تفاهمات” مهّدت للإستقلال الوطني، ولم تكن في أي وقت تعبيراً عن ”غَلَبة مارونية” عبّرت عن نفسها بـ”انقلاب عسكري على متن دبابة”، أو بـ”قصف مدفعي وغزو” لبلدات ”السنّة” أو ”الشيعة”، كما حدث في ”غزوة حماه” المأساوية التي لعبت دوراً تاريخياً في تحوّل نظام حافظ الأسد إلى ما أصبح عليه لاحقاً.
وهذه ”التفاهمات” جعلت الموارنة (أو المسيحيين) في وضع ”الأوائل بين متساوين”، فقط لا غير! وهذا ما لم يفهمه ”الجنرال” ميشال عون.
”عبقرية الآباء المؤسسين”: الدستور ظلّ “علمانياً”
ما لم ينتبه له الصديق صادق هو أن هذه ”التسويات” ظلّت ”شفهية”، وكانت “عبقرية” صانعيها الرئيسين، أي الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح (“عبقرية مارونية-سنّية”)، أنهما لم يلحظا لها “أثراً” في “الدستور” اللبناني الذي “نصّ” على المساواة بين اللبنانيين.
الدستور اللبناني ظلّ “ليبراليا” بالمعنى الغربي، وهو ربما أفضل دساتير المنطقة العربية، ولم “يتلوّث” بالترتيبات “الطائفية”، رغم أن تلك الترتيبات كانت ضرورية لقيام “الكيان” اللبناني، أي لوجود لبنان نفسه، لأن أغلبية “المسلمين” اللبنانيين ظلّت حتى اندلاع الحرب الأهلية في ١٩٧٥ “متبرّمة” بفكرة “الكيان اللبناني” نفسه! وقسم منها كان “متبرّماً” من فكرة وجود رئيس “غير مسلم”.
(الخيار الآخر المطروح تاريخياً، والبعض يقول حالياً، هو “جبل لبنان بأغلبية مسيحية-درزية لا تخلو من السنّة والشيعة” و”ساحل ملحق بسوريا”. هل يستطيع أحد أن يقنع مسلمي لبنان الحاليين أن يلتحقوا بسوريا! إذا حاول أحد، فسيكتشف أنهم أصبحوا “إنعزاليين”، مثلما كنا نقول عن أحزاب المسيحيين في زمن مضى!
إتفاق الطائف ”طائفي”
”اتفاق الطائف”، الذي يطري عليه صادق العظم، أدخل الطائفية إلى الدستور، حينما كرّس توزّع المناصب الرئيسية الثلاثة “كتابةً”! وهذا يصعب أن يُسمّى “سقوط المارونية السياسية”! فلم يتغيّر ترتيب الرئاسات الثلاث، ولكن الترتيب الجديد أصبح ”دستورياً”. أي أنه ”لوّث” الدستور اللبناني بلوثة الطائفية التي ”تجاوزتها” عبقرية ”الآباء المؤسسين” (كما يقول الأميركيون)، أي بشارة ورياض!
لم أكن أرغب في الإطالة في هذا الردّ. ولهذا السبب، لم أتطرّق إلى الخلفية التاريخية لصعود الموارنة، خصوصاً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: صعودهم ”العسكري” (رغم هزيمتهم في حروب ١٨٤٠-١٨٦٠)، وصعودهم التعليمي والثقافي. ولم أتطرّق أيضاً إلى صعود ”العلويين”، ما أن هنالك ما يُقال أيضاً.
ولكن صادق جلال العظم لعب دوراً مهماً جداً في مكافحة الفكر المتخلف، وخصوصاً الفكر الديني، في المنطقة العربية، وفي سوريا ولبنان خصوصاً. وكان الوحيد الذي امتلك جرأة نشر كتابٍ يدافع فيه عن الكاتب ”سلمان رشدي”، أي عن حرية التفكير وحرية الإبداع. وما أخشاه هو أن يكون لنظريته الجديدة تأثير مماثل رغم أنها “تنظيرة خاطئة”!
أخيراً، حينما قرأت مقارنة صادق العظم بين “العلوية السياسية” و”المارونية السياسية”، تبادر إلى ذهني خطاب ألقاه الصديق محمد حسين شمس الدين، واقتطف فيه ما قاله البطريرك الحويك، وهو بطريرك ”سياسي” بامتياز، أي أنه ممثّل ”أصلي” لـ”المارونية السياسية”:
”عام 1919 حمل البطريرك الياس الحويّك إلى مؤتمر السلام في باريس مطلب إنشاء دولة “لبنان الكبير” بحدوده الحالية وتكوينه التعدّدي. ومما قاله البطريرك، مخاطباً رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك جورج كليمنصو:
”اسمحوا لي، سيادة الرئيس، أن ألفت عنايتكم إلى ميزة يتفرّد بها مطلبنا هذا؛ وهي أنه للمرة الأولى في الشرق هناك من يريد إحلال “الوطنية السياسية” محلّ “الوطنية الدينية”. وهذا أمرٌ عظيم الشأن، سوف تترتّب عليه نتائج بالغة الأهمية، كما لا يخفى عليكم. وعليه فإن لبنان المنشود يمتلك شخصية خاصة لا يجوز – ومن منظار الحضارة نفسها – التضحيةُ بها لأية اعتبارات مادية”.
هذا كلام ”الأب المؤسس” لـ”المارونية السياسية”، وهو كان “بطريركاً” بالمناسبة. وكلامه يشير إلى مستقبل ”أفضل” من النظام الحالي: ”إحلال “الوطنية السياسية” محلّ “الوطنية الدينية”. وهذا أمرٌ عظيم الشأن..”!
وهذا يظل مطلب ”العلمانيين” اللبنانيين، والعرب! والإيرانيين أيضاً، وخصوصاً! فهم شعب متقدّم، وهم الذين أدخلوا أنفسهم، وأدخلونا، في هذا.. “المغطس” المذهبي.
ومن يدري، فقد يكون هذا آخر الزمن ”الداعشي”، وآخر زمن ”ولاية الفقيه” المشؤومة! وقد تكون “العلمانية” هي الوجهة المقبلة بعد هذه “الفتنة الكبرى”؟
pierreakel@gamil.com
العزيز فاروق عيتاني يزعجني أن تقول أنني “آظهرت حساسية… ” بمجرّد الردّ على صادق جلال العظم. “حساسية” ماذا؟ “حساسية أقلية”؟ تضامني مع “الأقلية السنّية” (المسلمون السنّة أيضاً أقلية في العالم)، أو “الأقلية الشيعية” لا يقل عن تضامني مع “الأقليات المسيحية” أو “الأٌقليةالإيزيدية” أو.. من ينتمي إلى فكر “إنساني” لا يتنازل إلى مستوى التعاطف الطائفي مع “أهل جلدته” كما تقول العرب “العارية” أو “المستعربة”! هل نسيت أن شعار البلد الذي بتّ أحمل جنسيته، مثل ملايين العرب، مسلمين ومسيحيين ويهود، هو “حرية، إخاء، مساواة”. هذه كلمات، ولكنها تستحق التمسّك بها ليس فقط لأن كلفة الوصول إليها كانت باهظة بشرياً، بل لأنها هي… قراءة المزيد ..
ليتك عزيزي لم ترد على الاستاذ العظم. كلنا نعلم ان هناك فروق بين وضع الموارنة من جهة عدم تطابق خطوط مواقفهم السياسية مع الطائفية الى درجة ممكن القول فيها 40-60% وبين علوي سورية حيث تتططابق تلك الخطوط بنسبة قد تصل الى 95%. ان ردك يا عزيزي قد ساواك مع ذاك الطبيب العلوي من كفريا والذي نشر مقالا في العربي الجديد يرد فيه على الاستاذ العظم..لقد اظهرت حساسية و اعدت اثارة موضوعات كنا كمسلمين قد تجاوزناها لبنانيا بفضل رياض الصلح و رفيق الحريري و للمناسبة فكلاهما دفعا الثمن اغتيالا كما دفعه بشير الجميل و كمال جنبلاط. عزيزي بيار عقل،ما هي الاقليات؟… قراءة المزيد ..