قال لي الرجل الأربعيني إنه قرر ان يبيع ضميره بعد مسيرة نضال لم تثمر وطناً عادلاً وأميناً له ولأبنائه، لذا سيقترع هذه المرة لمن يدفع له بدل صوته.
قال الرجل ما يدينه قضائياً وما يمكن أن يودي به الى السجن بموجب القانون. لم يشعر بحرج. لم يرتبك او يخفض صوته. مثله كثيرون. فقد نسمع العبارات ذاتها من سائق التاكسي او من مجموعة شباب في الأماكن العامة. الشهية مفتوحة على بيع الأصوات بصرف النظر عما إذا كان البائع سيلتزم مَن يدفع له.
الحديث عن الرشوة الانتخابية وشراء الأصوات المألوف في لبنان في غياب أي مساءلة فعلية على امتداد الدورات الانتخابية، أصبح واقعاً وقحاً أكثر فأكثر، كأن يؤكد أحدهم ان هناك مَن عرض عليه وعلى أفراد اسرته مبلغ 400 دولار للصوت الواحد، أي مصروف العائلة لنحو الشهر في مجموعه. مع هذا لا نجد مَن يتحرك ويقاضي المرشح الذي يرشو حتى يؤمّن للائحته الحاصل الانتخابي ولنفسه الصوت التفضيلي. واذا حصل وتحرك القضاء، فقد تقتصر سلطته على المرتشي وتعجز عن مساءلة الراشي.
الأكيد ان المسؤولين من كبيرهم الى صغيرهم يعرفون هذا الواقع، ولا غرابة إن كانوا مشاركين فيه. مع هذا، يحدّثونك عن الأخلاق والقيم والوطنية.
المفارقة ان الأكثر فساداً وكذباً وفجوراُ هم الأكثر ثقة اذا ما تحدثوا عن الاخلاق والادعاء عفة عن المال الحلال قبل الحرام الذي يغرقهم، بما يمكِّنهم من التعالي والتباهي والفوقية الكريهة واستغباء الناخبين والرأي العام.
فقد أبدى احد مرشحي السلطة انزعاجه لوضع لبنان في صدارة الدول الفاسدة، في حين لا عنوان لهذه السلطة التي يواليها ويضرب بسيفها منذ الحرب اللبنانية الا الفساد واستباحة المال العام.
المفارقة في فيض الأخلاق الانشائية البعيدة عن كل المخالفات الانتخابية التي تنشط أكثر فأكثر مع اقتراب السادس من أيار.
التنظيرات والشعارات لا تمنع اهل بيت الأقوياء من استغلال قوتهم ترشيحاً واستخداماً للسلطات المنوطة بهم من أجل تأمين فوزهم وتثبيت نفوذهم.
يبتزون المواطنين بخدمات يحتكرونها بموجب سلطتهم، والمشكلة ان المواطن الذي يفضّل النأي بنفسه عن التغيير، يخضع للابتزاز وينسى ان هذه الخدمات هي الحد الأدنى من حقوقه.
يطالبوننا بالمساءلة والمحاسبة، وهم الأدرى ان لا سؤال ولا حساب ولا من يحزنون، سواء من جهتهم كأطراف سياسيين يغيّرون تحالفاتهم كما يغيّرون قمصانهم. ومَن كانوا يتهمونه بالفساد سابقاً، أصبح اليوم صديقاً صدوقاً، وغيره صار رمز الفساد الذي يجب ان لا يعيش مع التحرير والمقاومة.
ولا عجب، ما دامت ارتكابات الوزراء او النواب المرشحين للمخالفات الانتخابية، محمية بقانون هيئة الاشراف على هذه المهزلة المقنّعة بالديموقراطية بسبب الحصانة.
الانكى ان كل مرشحي أهل السلطة “يبلطجون” على القوانين بطريقة او بأخرى للتأثير في الناخبين. بونات البنزين لغايات انتخابية وعلى عينك يا تاجر. هذه، لا يفترض اعتبارها رشوة. جلب المغتربين الذين لم يسجلوا أسماءهم حيث يقيمون، الى لبنان، على حساب المرشحين، ليس مخالفاً للقانون الانتخابي.
منشور من دون أي كلمة سوقية او فيها قدح وذم ضد احد مرشحي السلطة، يقود أصحابه الى السجن. التهديد والضرب والاهانات والاتهامات والشتائم العلنية على لسان هؤلاء المرشحين عبر وسائل الاعلام، لا تعتبر خروجاً على القانون.
يستبيحون بسلطتهم وأموالهم الطرق والابنية والساحات ووسائل الاعلام ليروّجوا لأنفسهم. يستغلون وجودهم في مواقع السلطة لهذه الغاية، في حين ان غيرهم من المرشحين لا يحظى بالفرص ذاتها. ومع هذا يحدّثونك عن الاخلاق.
بناء عليه، لا عجب إن تحولت اخبار المسؤولين اليومية دعاية انتخابية غير عادلة.
فإطلالاتهم في مناسبات مفتعلة ومؤتمرات صحافية لإنجازات ومبادرات، عشية فتح صناديق الاقتراع، دعاية انتخابية صافية على حساب المرشحين غير المحظوظين بمنصب رسمي يتيح لهم هذه الكثافة من الاطلالات والإنجازات التي تفقس على مدار الساعة مع اقتراب الاستحقاق في السادس من أيار.
بشعون هم أهل السلطة عندما يحدّثونك عن الأخلاق، وأنت تعلم ان لديهم الدسم والسم في الوعاء ذاته، ويليهم في الدسم رجال الاعمال وأصحاب الثروات.
اما عن المرشحين غير المحسوبين على هذه الأحزاب، فيا حسرة، لا سمن ولا زيت، ولا أي نوع من أنواع الدسم في اطباقهم الانتخابية، فقط امنيات بتحقيق برامج نظيفة. وضعهم “دايت”، وعلاقتهم بلوائح الشطب “دايت” اكثر فأكثر، لأن من يسيطر على هذه اللوائح وعلى تفاصيل مجريات العملية الانتخابية من أهل السلطة، هم أقوياء.
المواطن المتأرجح بين الشطارة والغرائزية، يجب ان يفهم اين مصلحته، ويعيد انتخاب هؤلاء الأقوياء الذين إن لم يخدموه مباشرة فقد يعتبرونه خائنا اذا تخلف عن مبايعتهم، ويهملونه اكثر مما هو مهمل، ولا سيما اذا اضطر لطلب خدمة في مجال التعليم او الاستشفاء او الوظيفة. فإن انتخب هؤلاء، يستطيع طلب الخدمة وعينه مفتوحة ورأسه مرفوع، ولا يهم إن تمت تلبيتها ام لا، لأن درس الانتخابات يقضي بأن يفهم من يمشي عكس التيار بأنه يفقد حقه في المطالبة بحقوقه كمواطن. خيانته لأهل السلطة في صناديق الاقتراع، تكسر له عينه وتجعله نسياً منسياً.
ولأن الناخبين من فئة الذين يقبّلون الايادي ويدعون عليها بالكسر، ينوحون على وطن لهم ولأبنائهم، وعينهم على من يدفع أكثر، قد حسموا المسألة، واكتشفوا ان أفضل طريقة للمرشحين الأقوياء الذين يحدّثونك عن الأخلاق هي بالتفاوض لرفع سعر الصوت الانتخابي. فالموسم في أوجه. وهنيئاً لمَن دفع الثمن ليعود الى السلطة. اما من باع مصيره فليصمت بعد الانتخابات.
sanaa.aljack@gmail.com