انتقل مدير المخابرات العسكرية السابق العميد غابي لحود إلى إسبانيا منذ فوز الرئيس سليمان فرنجية بفارق صوت واحد في انتخابات الرئاسة على مرشح الشهابية، الرئيس لاحقاً الياس سركيس العام 1970. الرجل القوي وصانع الأحداث في عهد الرئيس شارل حلو لم يعد إلا لماماً وفي إطلالات متباعدة على لبنان. خلافاً للعميد الآخر، المدني، ريمون إده الذي ناصبه و”معلمه” فؤاد شهاب الخصومة السياسية، ولحق به بعد ست سنوات إلى المنفى الاختياري، في ظروف مأسوية أيضاَ، وحطّ في باريس ولم يرجع إلى بيروت إلا في نعش بعد 24 عاماً. العميد لحود عاش في إسبانيا ومات ودُفن فيها.
لم تحتضن بيت الدين رفات ابنها.
“آخر ضابط أمن ماروني نسمع به”، يقول عن غابي لحود النائب السابق فارس سعيد، ولا يغيب عنه اسم العقيد جوني عبده الذي خلف رئيس “المكتب الثاني” الراحل بفاصل في عهد الرئيس فرنجية تولى فيه المنصب العقيد جول بستاني. “الله يطوّل عمره، جوني عبده تسلم المخابرات عندما لم تعد الدولة موجودة”.
وزير العدل السابق شارل رزق، الذي كان قريباً من الرئيس فؤاد شهاب، وعرف غابي لحود من قرب يصفه بأنه “ألمع الضباط. تخرج في أعلى معاهد الولايات المتحدة وفرنسا. يجسد في شخصه المناقبية والثقافة العالية. جنتلمان بوجه بشوش، يتمتع بعلاقات طيبة مع الناس. بعد انتخاب شارل حلو رئيساً عام 1964 تولى غابي لحود مهمة صعبة. كان عليه أن يوفق ما استطاع بين الرئيس حلو والرئيس السابق فؤاد شهاب. فما حصل أن الرئيس الجديد الذي اختاره شهاب لخلافته رافضاً التجديد لعهده، أخذ يثير موضوع “المكتب الثاني” ودوره ومهماته ويخلق مشكلات لشهاب. والواقع أن كل دولة تحترم نفسها حتى لو كانت متقدمة ومحايدة مثل سويسرا لا يعقل أن تسير من دون جهاز مخابرات. كان “المكتب الثاني برئاسة لحود في ذروة الكفاءة، لكن فاعليته تقتضي السرية وعدم نشر أخباره في الصحف كما كان يحصل، والأرجح بتغطية من رئيس الجمهورية الذي أراد الابتعاد عن شهاب وظلاله في القصر والحكم.
حمل عبء مسؤولياته في “المكتب الثاني” وحملات الخصوم الشديدة بديبلوماسية وليونة. حملات ذكية جداً كان يقف خلفها رئيس الجمهورية وأصدقاء له، نشرت الغسيل على السطوح ومانشيتات الصحف. يقول رزق : “المكتب الثاني اللبناني كان بعيداً عن المخالفات. اللهم إلا بعض أخطاء يصدف أن تقع. كانت أخلاقية غابي لحود ومناقبيته حصانة للمكتب الثاني. وأياً تكن المخالفات في حال وقوعها فإنها لا تُذكر مقارنة بما ارتكبت المخابرات وغير المخابرات من قوى محلية وغير محلية في لبنان بعد 1970”.
ولكن غابي لحود كان له رأي مختلف عن رأي شارل رزق. في حديث إلى الصحافي غسان شربل ضمّنه كتابه “ذاكرة الاستخبارات”. يقول: “أنا شخصياً لم تكن تزعجني معارضة صحيفة “النهار”! إذ كان موقفها يقدم دليلاً على أننا لا نعيش في ظل ديكتاتورية أو حكم عسكري”. وفي مكان آخر روى طرفة: “كانت “النهار” تشن حملة شعواء على عهد شارل حلو و”المكتب الثاني”، لكن علاقاتي مع صاحب “النهار” غسان تويني لم تنقطع. كنت أقدّر ذكاءه وبراعته وكنا نتحاور حتى وإن عجز كل واحد عن إقناع الآخر. ذات يوم دخل ريمون إده مكتب تويني في “النهار” فوجدني مجتمعاً به. بدت المفاجأة على وجهه والتفت إلى غسان قائلاً: “حتى في “النهار” غابي لحود موجود؟ ماذا يريد؟”! ونظر إلى تويني نظرة استغراب وعتب شديد. قال له تويني: “بيننا وبين غابي علاقة، نتحدث ثم يتصرف كل واحد وفق قناعته، وأنا أرى أن من المفيد أن تستمع إليه”. وعرض لحود خلفيات مشكلة طائفية كانت تتجمع في البلاد وبدا ريمون إده مقتنعاً بوجهة نظره ولكن حائراً، فسأله: “لو كنت مكاني ماذا تفعل؟” فأجاب غابي لحود ممازحاً: “أشكر الله كل يوم أنني لست مكانك. أنا دخلت الجيش هرباً من السياسة، لكنها لاحقتني”.
من الذاكرة الحية يروي فارس سعيد أن أول اختبار جدي واجه غابي لحود بعد تسلمه “المكتب الثاني” تمثّل في وفاة والده، أنطون سعَيد، بذبحة قلب مفاجئة عن عمر 40 سنة. كانت مضت سنة فقط على فوزه في انتخابات 1964 على العميد ريمون إده، وكان همّ المكتب الثاني ألا يكون الفارق كبيراً بين أرملة سعيد، الشابة نهاد، التي أصرت على الترشح، وبين العميد إده في حال فوزه، لئلا تثبت مقولة إن المخابرات تدخلت لإسقاطه في انتخابات 1964. يقول سعَيد، ملاقياً رواية رزق عن دور الرئيس حلو، إن الرئيس كميل شمعون والعميد إده مارسا عليه ضغوطاً وأقنعاه بإرسال إشارة ابتعاد عن الشهابية. روى غابي لحود عن تلك الحادثة أن “المكتب الثاني” اكتفى بالتوجيه لمصلحة نهاد سعَيد، بينما وجّه “الأمن العام” لمصلحة ريمون إده، فانتصر الأخير (بفارق عشرات الأصوات). وغضب فؤاد شهاب على شارل حلو مرده أنه أخفى عنه حقيقة موقفه، إذ كان يُشعره بأنه لا يريد نجاح إده، ولو صارحه لما كان من شهاب إلا المباركة”.
بعدها كان استحقاق انتخابات 1968 النيابية بين “حلف ثلاثي ” و”نهج”، وفاز الحلف لاعتبارات إقليمية. إذ سبقت تلك الانتخابات حرب 1967 التي حملت هزيمة إلى عبد الناصر انهارت معها منظومة سياسية في المنطقة ومنها لبنان. الإرادة الدولية لكسر فؤاد شهاب، حليف عبد الناصر، هي التي دفعت زعماء الموارنة إلى تركيب حملاتهم الانتخابية على “سن طائفية” لتحقيق هدفهم. وليس لأنهم طائفيون. والمفارقة أن المنطقة الوحيدة التي خرق فيها “النهج” هي جبيل، حيث فاز نجيب الخوري، بفضل التصويت الشيعي.
تسارعت الأحداث بعد ذلك: اتفاقية القاهرة، حادثة كوع الكحالة (من أين لشباب الكتائب وقتها المعلومات عن شحنة الأسلحة وموعد مرورها؟)، حادثة “الميراج” عندما أحبط “المكتب الثاني محاولة الاتحاد السوفياتي الإستيلاء على طائرة من لبنان. يفسر فارس سعادة تلك المحطات المفصلية بمحاولة بيع مواقف عملية إلى واشنطن لإنقاذ الشهابية، لكن واشنطن لم تشترِِ. فكانت النتيجة سقوط مرشح “النهج” الياس سركيس وفوز فرنجية بالرئاسة.
وتشرد “المكتب الثاني” ولم يعد منذ ذلك الحين، ولا الدولة.
لم أتعرّف على الجنرال غابي لحّود إلا بالهاتف. أذكر جيّدا أنه قال لي « كل ضباطي زاروا الشام، إلا أنا ». وقد تذكّرت كلامه حينما أجاب « الكسرواني اللئيم »، البطريرك العظيم صفير، عن سؤال صحفي حول موعد زيارته لـ »قصر المهاجرين » بجواب لا يُنسى: « أين يقع قصر المهاجرين « ؟ وقبل ذلك، كان الرئيس سركيس قد أوصى بأن لا يمشي أي مسؤول سوري في جنازته. غابي لحّود لم يخرج غنيّاً من السلطة. هذه تُذكّر له. وقد أصرّ الرئيس سركيس أن يسلّم خلفه، الرئيس أمين الجميل، كل « أموال الرئاسة » التي ظلت بحوزته من أصل هبة قدّمتها السعودية لدعم الرئاسة في بلد منهار ومحتل، وأعتقد أنها كانت ٥٠… قراءة المزيد ..