بدأت محاولة تغيير وجهة الأزمة الكورية من خلال الدبلوماسية الأولمبية، لكن حجم المصالح والتوازنات الدقيقة الإقليمية والدولية لا يبشر باختراق يمنع قيام كوريا شمالية نووية، وأقصى الممكن التهدئة المرحلية واختبار النوايا في صراع الإرادات.
تشهد الكوريتان صراعا إقليميا دوليا يعبر الزمان من قرن إلى آخر، ويعبر المكان من قارة إلى أخرى، إلى حد أن الانطباع ساد في الفترة الأخيرة بأن شبه الجزيرة الكورية هي أخطر مكان على سطح الأرض بالقياس لمكان آخر محتدم في الشرق الأوسط.
لكن هذا التصنيف من حيث الخطورة تعدل مع المفاجأة التي أحدثتها الدبلوماسية الأولمبية من خلال مشاركة كوريا الشمالية في ألعاب الشتاء الأولمبية التي نظمتها سيول.
مقابل رهان الرئيس الكوري الجنوبي، مون جاي- إن، على جعل الألعاب الأولمبية منصة من أجل السلام وعلى الأقل تحريك التفاوض من جديد، سجلت واشنطن تحفظها المبدئي لأنها تشكك بنوايا استدراج للجنوب من قبل زعيم الشمال المناور بامتياز، ولأنها تخشى من تفكك الحلف الذي تقوده.
وسيكون الاختبار لتحسين العلاقات الثنائية الكورية ومخرجات النزاع في خلاصة مبادرة الرئيس الكوري الجنوبي وقدرته على انتزاع خطوة ملموسة من قبل بيونغ يانغ في تجميد السباق الباليستي والنووي.
يتوجب التذكير بأنه في نهايات العام الماضي 2017، وصل التوتر بين الكوريتين أعلى مستوياته مع تجارب بيونغ يانغ الباليستية والتهديد باستخدام الأسلحة النووية، ونشر الولايات المتحدة نظام الدفاع الصاروخي (ثاد) في كوريا الجنوبية.
لكن بالرغم من تلويح كيم جونغ- أون بردود قاسية ضد أي عمل عسكري أميركي، تبين أن عزلة نظام بيونغ يانغ التي تفاقمت بعد موافقة الصين على تشديد العقوبات دفعت كوريا الشمالية إلى فتح خط حدودي ساخن مع كوريا الجنوبية، وجاءت هذه المبادرة بعد خطاب كيم جونغ-أون بمناسبة العام الجديد، وإعلانه إرسال بعثة إلى دورة الألعاب الأولمبية الشتوية المقررة في بيونغ تشانغ.
هكذا ربما بدأ تغير وجه التاريخ في شرق آسيا وذلك يوم 9 فبراير 2018 مع مشاركة كوريا الشمالية في الأولمبيات وحصول مصافحة تاريخية بين الرئيس الكوري الجنوبي مون جاي إن وشقيقة الزعيم الكوري الشمالي كيم يو جونغ خلال حفل افتتاح الأولمبياد، وهذه المصافحة تعد الأولى لفرد في الأسرة الحاكمة يزور الجنوب منذ انتهاء الحرب الكورية عام 1953، وفي نفس الإطار التقى رئيس كوريا الجنوبية برئيس مجلس الشعب في كوريا الشمالية كيم يونغ نام.
يتعدى هذا المشهد الإيجابي النادر بين الكوريتين الطابع الرمزي، ويعبر عن إرادة رئيس الجزء الجنوبي في سعيه لتغليب خيار السلام وإعادة التوحيد على المدى الطويل، ولجذب بيونغ يانغ وواشنطن نحو التفاوض وكسر الحلقة المفرغة بالرغم من عدم حماس قطاع كبير من الرأي العام الكوري الجنوبي.
وبدا جليا أن هناك شعورا وطنيا كوريا ونزعة نحو الوحدة تتحدى حسابات الآخرين، ودوما كان النظام الماركسي اللينيني الفريد من نوعه والذي أسسه كيم إيل سونغ أي كيم الأول، يعتبر نفسه التجسيد الأكثر شرعية للقومية الكورية مع نشأة هذه الدكتاتورية في مواجهة الاستعمار الياباني واستمرارها بعد الحرب التدميرية في خمسينات القرن الماضي وتباهيها بمقارعة وتحدي واشنطن.
مع النجاح في خفض التصعيد من خلال تفاهم حد أدنى بين الرئيس الكوري الجنوبي المنحدر من الشمال والمؤمن بخيار الانفتاح، والزعيم الكوري الشمالي كيم الثالث، نجحت الضغوط الأميركية في تضييق الخناق على بيونغ يانغ.
في مراحل سابقة نجح نظام كوريا الشمالية في تجاوز آثار الهزيمة العسكرية في حرب 1950 – 1953 وكذلك في تخطي الفوارق الأيديولوجية مع الدولة الراعية له أي الصين عند منعطفها الليبرالي الاقتصادي منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، وتمكن هذا النظام الشيوعي من الصمود بعد نهاية الحرب الباردة في 1989 وتغلب على انعكاسات المجاعة في السنوات التسعين. واليوم بعد كل التصعيد مع إدارة دونالد ترامب ووصول الأمور إلى حافة الهاوية، يستعين هذا النظام بخشبة خلاص الشعور القومي الكوري ورغبة مون جاي إن من أجل الاستمرار والبقاء على قيد الحياة.
بالرغم من الحرج الذي ظهر على موقف واشنطن، لكن الاختراق الكوري – الكوري أخذ يهدئ من روع دعاة التصعيد، خاصة بعدما تسربت الأخبار عن تفاصيل فشل اللقاء الذي كان مقررا عقده سريا بين نائب الرئيس الأميركي مايك بنس ووفد من كوريا الشمالية.
إذ تبين أن وفد بيونغ يانغ عدل عن فكرة اللقاء قبل موعده بساعتين نتيجة لتصريحات مايك بنس المنددة بالطموح النووي لكوريا الشمالية، والإعلان عن عقوبات جديدة، وتوطيد العلاقة الأميركية مع سيول وطوكيو. وكان اللقاء مقررا عقده في العاشر من فبراير الجاري، على هامش زيارة بنس إلى سيول خلال دورة الألعاب الأولمبية.
واتضح أن واشنطن تشعر بالأسف على الفشل في الاستفادة من هذه الفرصة، خاصة أن بنس كان يود من خلال هذا الاتصال توجيه رسالة تحث كوريا الشمالية على التخلي عن برامجها النووية مقابل وعود وضمانات.
سيجري التعويل على دبلوماسية مون جاي-إن لاستمرار تخفيف التصعيد وربما يكون ثمن زيارته إلى بيونغ يانغ صدور قرار ضمني بتجميد تجارب الصواريخ الباليستية، وتبدو مهمة الرئيس الكوري الجنوبي محفوفة بالمخاطر لأن موعد المناورات الأميركية مع كوريا الجنوبية في الربيع القادم والتي تأجلت بسبب الألعاب الأولمبية، سيمثل امتحانا لقدرته على إقناع واشنطن بالاكتفاء بتدريب غير هجومي وكذلك في قدرته على منع “الرجل الصاروخ” من الرد.
وهناك بالطبع موقف الصين الذي يجب أن يؤخذ بالحسبان لأن بكين لا تريد أن تخفف الضغط على واشنطن في هذا الملف وهي بالطبع (كما واشنطن وطوكيو) غير متحمسة للتقارب الكوري أو لفكرة الوحدة الكورية.
بدأت محاولة تغيير وجهة الأزمة الكورية من خلال الدبلوماسية الأولمبية، لكن حجم المصالح والتوازنات الدقيقة الإقليمية والدولية لا يبشر باختراق يمنع قيام كوريا شمالية نووية، وأقصى الممكن التهدئة المرحلية واختبار النوايا في صراع الإرادات.