في زمن فلاديمير بوتين ودونالد ترامب يمكن القول إن روسيا والولايات المتحدة على عتبة حرب باردة جديدة، وإن الكلام عن إمكانية الشراكة في الحوكمة العالمية مؤجل إلى إشعار آخر.
تسود خيبة الأمل الدوائر الحاكمة في موسكو بعد عام على تمركز إدارة دونالد ترامب مع سقوط الرهان الروسي على شخص الرئيس ترامب لجهة حصول تغيير إيجابي في العلاقات الثنائية. على العكس من ذلك، يبدو أن الاحتدام سيد الموقف مع هيمنة شبح “روسيا غيت” في الداخل الأميركي، ومع ما يشبه حرب باردة جديدة على مسارح تمتد من أوكرانيا إلى سوريا وشبه الجزيرة الكورية.
ومما لا شك فيه أن هذا التجاذب بين واشنطن وموسكو ومسار اختبار القوة بين الجانبين سيكونان حاسمين أو مؤثرين في مآلات أزمات كبرى من الشرق الأوسط الملتهب من سوريا إلى الملف النووي الإيراني إلى الأزمة الكورية في الشرق الأقصى.
منذ نهاية الحرب الباردة راهن جميع الرؤساء الأميركيين الجدد عندما استقروا في البيت الأبيض على تطبيع العلاقات الروسية – الأميركية، وتوطيد العلاقات بين واشنطن وموسكو.
ويتقاسم الرئيس فلاديمير بوتين هذا الرهان الذي اصطدم عمليا بعدم توافق الثقافات السياسية الروسية والأميركية، ولكنه اصطدم أيضا بالسلوك الهجومي للكرملين وباستعجال موسكو تكريس عودتها إلى المسرح الدولي، وبإشكالات مرتبطة بمرحلة ما بعد الأحادية الأميركية وخصوصاً قرار واشنطن توسيع حلف شمال الأطلسي نحو حدود روسيا.
يجدر التذكير أنه في نهاية عهد جورج بوش الابن عاد التوتر من بوابة حرب جورجيا في 2008، ولم يصمد طموح الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في ترميم العلاقة الروسية – الأميركية بسبب قرار الرئيس فلاديمير بوتين ضم شبه جزيرة القرم في مارس 2014.
ومنذ هذا التاريخ تحوّلت العقوبات الأميركية إلى عامل بنيوي في صياغة العلاقة الثنائية المترنحة. لكن مع انتخاب دونالد ترامب في نوفمبر من العام 2016، تأملت موسكو انطلاق حقبة جديدة من “الصداقة” بين أعداء الحرب الباردة السابقين، ليس على غرار توازنات الحرب الباردة، بل وفق منطق “الشراكة ذات المنفعة المتبادلة”. لكن سرعان ما طغت الشكوك حول التدخل الروسي المفترض في الانتخابات الرئاسية الأميركية، واضطر دونالد ترامب لعدم تنفيذ وعده الانتخابي حول تخفيف العقوبات المفروضة على روسيا في ما يتعلق بأوكرانيا.
والآن بعد سنة من رئاسة ترامب، يتضح أن سيد الكرملين لم يحصل على أي تنازلات كان يأمل أن يقوم بها نظيره الأميركي. على النقيض من ذلك، عاد قاموس الحرب الباردة إلى أدبيات الجانبين.
ضمن الاستراتيجية الأميركية الجديدة للأمن القومي التي أعلنها الرئيس ترامب في ديسمبر 2017، تم تصنيف روسيا كمصدر تهديد وورد في الوثيقة “من خلال الأشكال المعاصرة من التكتيكات التخريبية، تتدخل روسيا في الشؤون السياسية الداخلية للدول حول العالم ولمصالح واشنطن”.
والملفت اعتبار الصين وروسيا معا كغريمين يسعيان لتحدي سلطة الولايات المتحدة وتآكل أمنها ورخائها، وورد حرفياً في الوثيقة أن روسيا والصين “عقدتا العزم على جعل الاقتصاد أقل حرية وعدلا، وتنمية جيشيهما، والسيطرة على المعلومات لقمع مجتمعيهما، ومد نطاق نفوذهما”.
هكذا قامت المؤسسات الأميركية بتصنيف الصين وروسيا في الخانة العدائية بالرغم من محاولات الرئيس الأميركي الشخصية بناء علاقات مع نظيريه بوتين وشي جين بينج. وعلى نفس المنوال وأكثر، ورد في تقرير أعدّته مجموعة من الشيوخ في الحزب الديمقراطي، ونشر في 10 يناير الحالي، ضرورة “اعتبار روسيا والرئيس فلاديمير بوتين شخصياً بمثابة تهديد ضد الولايات المتحدة والديمقراطيات الأوروبية”. في المقابل، اعتبر مجلس الأمن في روسيا الاتحادية أن “الاستراتيجية الأميركية تهدد العالم وأن نهج الهيمنة الأميركية يسبب عدم الاستقرار”.
بالرغم من كل ذلك ومن مسار التحقيق في احتمال التدخل الروسي والضجة حول كتاب “النار والغضب” للكاتب الأميركي مايكل وولف، يتحدث ترامب باستمرار عن رغبته في تحسين علاقته مع روسيا، لكن هامش مناورته يضيق أكثر فأكثر نظرا لسياسات موسكو في سوريا وأوكرانيا، ولنهجها “الملتبس” إزاء أزمة واشنطن مع كوريا الشمالية.
في واشنطن لم تعد روسيا من أولويات السياسة الخارجية الأميركية، أما في موسكو فإن تطورات “القضية الروسية” داخل بيت الحكم الأميركي تدفع بأصحاب القرار إلى اعتبار دونالد ترامب رئيسا ضعيفاً وغير قادر على فرض إرادته.
ويقول مطلع على الشأن الروسي أن “ضعـف ترامب” يمثل مشكلة في العمق لموسكو مع سقوط الرهان عليه كصديق ولأنه “خصم فاقد للمصداقية” أو فزاعة تحفز الرأي العام حيث أن “القيصر الجديد” على أبواب انتخابات مارس، ولأن التركيز الدعائي على إعادة الاعتبار لمكانة روسيا كقوة عالمية كبرى يصطدم بوجود رئيس في البيت الأبيض تقيده المؤسسات الأميركية ويفتقد إلى استراتيجية حقيقية ومتماسكة.
في ما يتعدى الاعتبارات التكتيكية، صعدت في واشنطن فكرة اعتبار روسيا كهاجس دائم، بينما استعادت موسكو التركيز على معاداة السياسة الأميركية، لكن مع ترحيبها الضمني بقرار بعض المجموعات الأميركية (مثل بوينغ وكارغيل وماكدونالدز) بتدعيم وجودها في روسيا بالرغم من نظام العقوبات. لكن ذلك لا ينفي أن الصراعات حول الطاقة وطرقها أو مستقبل العلاقات مع أوروبا والصين لا توجد في حسابات الطرفين.
حيال هذا المأزق يطالب البعض في موسكو بالعودة للتعامل مع واشنطن وفق أساليب الحرب الباردة القديمة، سواء من خلال مساومات في قمم ثنائية أو عبر إبراز عضلات من خلال تعاون استراتيجي مع الصين. لكن عناصر القوة عند روسيا تتحكم بها إمكاناتها المحدودة إزاء قدرات الولايات المتحدة التي تبقى القوة العظمى الأولى، ومن هنا تبرز الانعكاسات السلبية على مسارح الأزمات الدولية.
يعود شبح المواجهة إلى الأزمة الأوكـرانية، ولم تغيّر إدارة تـرامب من موقفها منذ إعلامها روسيا في فبراير عام 2017 عن شـرطين للحل: التخلي عن ضم القـرم ووقف الحرب في شرق أوكرانيا. ولا يبدو أن بوتين بـوارد التراجع قيـد أنملة، وأن المؤسسات الأميركية ستتخلى عن استخدام الورقة الأوكرانية في جهدها من أجل لجم طموحات موسكو في جوارها الاستراتيجي.
أما في الأزمة السورية المتصلة بالموقف الأميركي من إيران، فقد كشفت تصريحات وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، عن سياسة سورية جديدة ونوعاً ما متماسكة لواشنطن تعتمد على إبقاء القوات الأميركية شرق الفرات من أجل “منع عودة تنظيم داعش وإنهاء نفوذ إيران الذي يتمدد على الأرض السورية وفي قلب مؤسساتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية. استراتيجية أميركية لسوريا من أجل “حل سياسي يخرج بشار الأسد بنتيجته من الرئاسة”.
والواضح أنه من خلال هذه الدعائم لسياسة جديدة تأمل واشنطن منع استفراد روسيا بالنفوذ وفرض “الحل الروسي” في سوريا، خاصة بعد عدم نجاح إدارة ترامب في إقناع روسيا بالفصل الاستراتيجي بينها وبين إيران على الساحة السورية.
وعلى صعيد الملف الكوري الشمالي، تنظر واشنطن بريبة إلى دور موسكو في عدم احترام العقوبات المفروضة على بيونغ يانغ وتقديم نفسها كحليف احتياطي لكيم جونغ أون كي يتهرب من ضغط الصين. ومن هنا أتى اجتماع هانوفر، في الأسبوع الماضي، حيث التقى ممثلون عن عشرين دولة (مع تغييب للصين وروسيا) من أجل ضمان تطبيق العقوبات ضد كوريا.
في زمن فلاديمير بوتين ودونالد ترامب يمكن القول إن روسيا والولايات المتحدة على عتبة حرب باردة جديدة، وإن الكلام عن إمكانية الشراكة في الحوكمة العالمية مؤجل إلى إشعار آخر، وإن التوتر وتناقض المصالح هما العنوانان البارزان في الحقبة الحالية.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس