طرأت بوادر تغيير على النظام الدولي الذي تأسس منذ الحرب العالمية الأولى، ثم ترسخ بشكله السياسي والأمني والاقتصادي الحالي بعد الحرب الباردة، في الوقت الذي تعددت فيه القوى الدولية والمؤثرة في التوازنات الإستراتيجية وحازت على مقاعد رئيسية على طاولة صنع القرار العالمي. واليوم، تسعى القوى الطموحة إلى ضبط قواعد اللعبة الإستراتيجية والنظام الدولي بالطريقة التي تخدم مصالحها، مستغلة حالة الفوضى المنتشرة في مختلف أنحاء العالم بطرق مختلفة إما صراعات مسلحة وإما احتجاجات شعبية وإما يمين متطرف وشعبوية صاعدة. وفي خضم هذه المتغيرات تبدو الفرصة سانحة أمام القوى العربية لإعادة ضبط تواجدها ضمن الجغرافيا السياسية العالمية التي تتشكل من جديد شرط أن تتخلص من اتكالها على نظريات المؤامرة وتطور عقيدتها الدفاعية، بعد أن أيقنت أن شراء أحدث الأسلحة وتكديسها لا يكفي للدفاع على الأمنين الداخلي والإقليمي.
باريس – تجري الأيام مسرعة وننزع آخر أوراق سنة 2017، وهي ختام سبع سنوات منذ 2011 أي سنوات الخضّات والتحولات العربية في دورة الزمن الصعب. في ومضة تفاؤل حتى لا تتبخر الأحلام كما تهرب السنوات بسرعة البرق أو “تغريدة تويتر”، نتساءل عما بعد هذه السبع العجاف.
وهل ستبدأ في 2018 دورة السنوات السمان أو السنابل الخضراء، ونعود إلى أرض الواقع؟
المسألة ليست قراءة في فنجان أو تخمينات وتنبؤات، بل إنها المعطيات التي تشير إلى أن إقليم غرب آسيا (الشرق الأوسط والعالم العربي والجوار) لا يزال في خضم صراعات محمومة واختبارات قوة ولا يستبعد احتمال حصول مواجهات إقليمية، مما يشي في حال تحقق ذلك بالمزيد من استكمال فصول الفوضى التدميرية، وذلك في سباق مع ترتيبات لإدارة أو ضبط الصراعات ومع احتمالات تحسن اقتصادي وإصلاحات ضرورية.
إقليم غرب آسيا (الشرق الأوسط والعالم العربي والجوار) لا يزال
في خضم صراعات محمومة واختبارات قوة ولا يستبعد احتمال حصول مواجهات إقليمية
انطلاقا من تطورات خطيرة في 2017 آخرها قرار دونالد ترامب حول القدس وتصاعد حرب اليمن واستمرار المراوحة والإرهاب في ليبيا وشبه جزيرة سيناء، وقبلها القضاء على معاقل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وتداعيات استفتاء كردستان العراق والأزمة الخليجية، نستشرف العام المقبل وآفاقه الملبدة والضبابية واستمرار مخاض ولادة عسيرة لنظام إقليمي جديد، لأنه قبل قرن من الزمن (1914-1920) شهدنا رسم حدود وولادة كيانات مع اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 ووعد بلفور عام 1917، بينما ليس بالضرورة أن يكرر التاريخ نفسه في ظل الصراع المفتوح والمتعدد الأطراف وأن نشهد ترتيبات مماثلة لمعاهدة وستفاليا في 1648 التي أدت إلى نشأة أوروبا العصرية ودولها ذات السيادة.
لا يخفي التذكير بوستفاليا التخوف من حروب طويلة في الشرق الأوسط على غرار “حرب الثلاثين سنة” في أوروبا، خاصة أن الخلل في موازين القوى الدولية والإقليمية يشجع الأطراف الإقليمية غير العربية (إيران وتركيا وإسرائيل) على التمادي في إنهاك العالم العربي المنكشف إستراتيجيا بالرغم من محاولة التصحيح التي انطلقت مع النهج الجديد للمملكة العربية السعودية وحلفائها، والذي يتطلب المزيد من الوقت وترتيب التحالفات كي يضمن أولا الدفاع عن الأمن الوطني للدول المعنية والدفاع عن الموقع العربي بالإجمال في مواجهة التهافت الإقليمي: مباهاة إيران بإكمال ممرها الإستراتيجي نحو البحر المتوسط والتمدد التركي نحو البحر الأحمر في السودان.
وفي موازاة المسعى الروسي من خلال مؤتمر سوتشي المرتقب لترتيب الإمساك بالوضع السوري، يساور المراقب الشك بالتوصل إلى نتائج حاسمة في ظل عدم توافق الحد الأدنى مع واشنطن، ويبقى انتظار “غودو” البيت الأبيض سيد الموقف بعد عام على تمركز إدارة ترامب، لأنه من دون اتضاح تطبيقات الإستراتيجية الأميركية حيال إيران والأكراد وسوريا وتركيا والأزمة الخليجية، ستكون هناك ضبابية وغموض وعدم استقرار في بحر هائج ومتلاطم من اللااستقرار.
وحسب مصادر أوروبية متابعة يتأرجح دونالد ترامب بين عدة اتجاهات داخل إدارته، إن حيال روسيا (التحقيق حول التدخل الروسي في الانتخابات يبقى سيفا مسلطا) وإن حيال إيران أو المملكة العربية السعودية. بيد أنه من الأرجح أن النهج الإيراني الهجومي المستند إلى الميليشيات الإقليمية وتصدير تقنيات الصواريخ الباليستية سيكون محور الاهتمام في 2018، وسيكون هناك سباق بين المسعى الفرنسي للاحتواء (هناك زيارة منتظرة لإيمانويل ماكرون إلى إيران في بدايات 2018) وبين اختبار قوة أميركي – إيراني يمكن أن يخرج عن السيطرة.
ينسحب هذا التأرجح في النزاعات أو هذا المأزق على ملفات أخرى: الملف الإسرائيلي – الفلسطيني بعد قرار ترامب حيث أن إيجاد بديل للراعي الأميركي لمسار السلام “الافتراضي” لا يبدو متيسرا، أما الملف الليبي فلا يبدو على طريق الحلحلة بالرغم من وعد الانتخابات، وأخيرا يندرج الملف اليمني في الصراع الإقليمي الأوسع.
وفي موازاة ذلك هناك الانتخابات القادمة في مصر التي ستؤكد على الوضع القائم مثلها مثل انتخابات العراق التي يمكن أن تحدث تغييرات طفيفة في المشهد العراقي.
وتبقى الانتخابات التشريعية المرتقبة في لبنان في مايو القادم محط الأنظار بعد طول انتظار، خاصة لجهة صعوبة توقع نتائجها مع تغيير القانون الانتخابي أو لجهة تغيير حاسم في ميزان القوى الداخلي لصالح فريق حزب الله ومحوره الإقليمي. بيد أن الأدهى احتمال الانعكاس السلبي على الواقع اللبناني الهش وخاصة على اقتصاده.
وربما يخفف من وقع ذلك احتمال أن يؤدي تحسن الاقتصاد العالمي في 2018 إلى تحسن الاقتصاد العربي بعد الآثار السلبية للفوضى السياسية الحاصلة في المنطقة وانخفاض أسعار النفط وارتفاع معدلات البطالة خلال العام 2017، إذ أن التوقعات خلال العام الجديد تشير إلى احتمال ارتفاع أسعار النفط بشكل تدريجي ما سينعكس إيجابا على الدول الخليجية بشكل خاص.
كما أن المبادرات الدولية لتدفق التجارة والمبادرات الإقليمية التي ظهرت ملامحها في كل من الإمارات والسعودية وغيرها من الدول الخليجية والقائمة على مبدأ تنويع مصادر الدخل من شأنها أن تساهم وبشكل كبير في خفض العجز المالي.
وفي المملكة العربية السعودية بالذات كانت العلامة الفارقة مع التحولات التي شهدها العام 2017 وبروز دور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ومساعيه الإصلاحية التي يمكن أن تغير وجه المملكة والإقليم وتعزز النهج الوسطي في الإسلام.
وإذ ترتبط الأزمة الخليجية مع قطر بغيرها من التطورات الإقليمية، سيشكل العام 2018 محطة مفصلية لاستشفاف قدرة الرياض والقاهرة وأبوظبي والبحرين على تشكيل نواة نظام إقليمي عربي قادر على الحد من الانكشاف الإستراتيجي العربي ومواجهة التوسع الإيراني وملاقاة المصالحة الفلسطينية.
وعلى المقلب الآخر في المغرب العربي لا يبدو أن الاضطرابات أو حركات الاحتجاج في المغرب وتونس والجزائر ستؤدي إلى تحولات دراماتيكية، كما لا يبدو أن الأفق المكفهر في سماء العلاقات الجزائرية – المغربية مرشح للانقشاع بسبب صراع الصحراء المزمن والتباعد في أكثر من ملف.
لخص المؤرخ أرنولد توينبي نظريته في (التحدي والاستجابة) بقوله إن نمو حضارة من الحضارات أمر مرهون بمدى استجابة الناس للتحديات التي تواجههم. وهذا ما ينطبق على العرب اليوم مع نقلة الأعوام وفي غمار التحديات الجسام. والأهم ألا يبقوا خارج دائرة الفعل مع تبرير العجز البنيوي في بناء دول القانون وحل النزاعات البينية والاكتفاء بإحالة ذلك إلى المؤامرات.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس