يريد الرئيس سعد الحريري الخروج بأي ثمن من دوامة فراغ رئاسة الجمهورية وتهمة التسبب بتعطيل انتخاب الرئيس من خلال رفضه انتخاب المرشح الوحيد الذي يقبل به “حزب الله”، الجنرال ميشال عون. لكنه على ما يرى أحد القريبين منه يدرك تماماً مقدار المشكلات التي سيثيرها قراره السير بهذا المرشح “الاستفزازي” في عيون ناس “تيار المستقبل” وأعضاء كتلته النيابية والحلفاء في داخل لبنان وخارجه.
يدرك كل ذلك الحريري لكنه ينظر كالفيلسوف سقراط إلى الكأس الموضوعة أمامه، وسيأتي وقت يستمع فيه الناس إلى دفاعه قبل تجرعها. “أما اليوم، ففي رأيي، يقول الرجل القريب منه، أنه لم يتخذ قراراً نهائياً بعد. عن غير اقتناع بات يرغب في الانتهاء من الموضوع بتأييد ترشيح عون مثلما فعل حليفه السابق سمير جعجع، ويقيس في الوقت نفسه ردود الفعل المحتملة والانعكاسات عليه وعلى تياره، وهذه لن تكون قليلة ولا يُحسب لها حساب. ولا يعني هذا الكلام أنه لا يمون على كتلته وعلى جزء وازن من قاعدة “المستقبل” الشعبية.
هكذا وحده سعد الحريري بين السياسيين اللبنانيين يظهر حاملاً سُلّم رئاسة الجمهورية بالعرض. جرّب ترشيح حليفه السابق سمير جعجع ولم يمرّ. اقترح الرئيس أمين الجميّل ولم يمرّ. انتقل إلى الضفة الأخرى ورشّح سليمان فرنجية خصم الأمس وثالث “الموارنة الأقوياء” الذين طوّبتهم بكركي ولم يمرّ. فيما بقية القادة والزعماء يبدون غير مبالين عملياً. رشّح “حزب الله” ميشال عون وارتاح. ومثل “حزب الله” رشّح سمير جعجع غريمه السابق وارتاح. كان خط التماس السياسي في لبنان “سلاح حزب الله” فصار “تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية”. صار المعطّل عند الشيعة وجزء واسع من المسيحيين، سعد الحريري .
تستحيل إعادة الأحداث إلى الوراء بعد أن تدخل التاريخ. اختار سعد الحريري أهون الشرين عندما التقى سليمان فرنجية واقتنع بأن صداقة الزعيم الزغرتاوي مع رئيس النظام السوري بشار الأسد شخصية ولن تكون على حساب لبنان، وأنه يتفهم مشكلة “سلاح حزب الله” لكنه سيقاربها بواقعية. بنى ثقة مع فرنجية وفضّله باعتباره أفضل الممكن. على النقيض تماماً اندفع سمير جعجع فوق خط التماس السياسي وبنى تحالفاً مع ميشال عون بصرف النظر عن موضوع “سلاح حزب الله”، واضعاً عن حق أو عن خطأ سلامته الشخصية فوق كل اعتبار. لا ضرورة للتذكير بما بينه وبين رئيس “المردة” وعائلته وعدم تحقق مصالحة حقيقية وفي العمق رغم اللقاءات والاتصالات المباشرة والمداورة بين الطرفين، “القوات” و”المردة”. في مرحلة ما بعد انطلاق تطبيق “اتفاق الطائف” بقليل، وخلال المشاورات لتأليف حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي تحديداً، قال الوزير السابق والمرشح الدائم للرئاسة جان عبيد لسمير جعجع “ادخل الحكومة لتقفل المقابر المفتوحة”، فدخلها بالوزير روجيه ديب ولم يدخل. وبقيت المقابر مفتوحة مع “التيار العوني” حتى إعلان التحالف في معراب 18 كانون الأول الماضي.
لا يكفي حامل السُلم الرئاسي بالعرض سعد الحريري موقف حزب الكتائب اللبنانية، المبدئي والرافض، انتخاب رئيس للجمهورية من قوى 8 آذار لا يحمل مشروعاً وطنياً سيادياً، ولا مواقف الـ ” 14 آذاريين” الآخرين الذين يقولون رأي الكتائب. أقصى ما يمكن التوصل إليه في رأيه، من خلال التشبث بهذا الموقف الرافض هو تجميد الوضع، أي تطويل أمد معاناة اللبنانيين واحتضار الدولة. و”حزب الله” واضح: تريدون رئيساً؟ انتخبوا ميشال عون، وإلا فإنكم تعطلون الانتخابات والبلاد. ولم تعد هناك عملياً قوى 14 آذار، جبهة سياسية واسعة وعابرة للطوائف والمذاهب ترد عليه بأن سلاحك هو المشكلة وسلاح التعطيل والقضاء على الديموقراطية.
تسأل القريب من الرئيس الحريري هل يحمل في رأيه اليوم الكأس التي حملها سقراط وهو يُطلق دفاعه الأخير عن نفسه؟ يجيب “كلا. لكن المشهد عالي الخطورة . هل تذكر فيلم “صائد الغزلان” (بطولة روبرتو دي نيرو، 1978) ولعبة “الروليت الروسية”؟ الفارق أنه بدل رصاصة واحدة في بَكَرة المسدس هناك خمس رصاصات. أعني أن نسبة الخطر 5/6 وليس 1/6 . ولا ضمانات صراحةً، لا من “حزب الله” ولا من عون الذي سيكون مع “حزب الله” إذا وصل إلى بعبدا ما كانه الرئيس إميل لحود مع نظام الوصاية السوري. وأصلاً ما قيمة ضماناته إذا وُجِدت؟ إسأل عنها الدكتور جعجع الذي أعلن تأييده “حكومة الإستقلال وأكثر” لينقض عليه الجنرال عون مرتين في 14 شباط 1989 و31 كانون الثاني 1990 مخلفاً مئات الضحايا ودماراً لا يوصف لا تزال أثاره مجلجلة في السياسة وموقع المسيحيين ووزنهم في لبنان حتى اليوم.
أما “حزب الله” فيكفي لتبيان وَهَن ضماناته ولاجدواها تذكر حرب تموز 2006 بعدما وعد الأمين العام لهذا الحزب حسن نصرالله بصيف هادئ . وتذكّر الوعد بعدم استخدام السلاح في الداخل ثم “7 أيار”. واتفاق الدوحة وكيف أسقطوه في ليلة ليس فيها ضوء قمر وأسقطوا حكومة الحريري وهو على مدخل مكتب الرئيس الاميركي باراك أوباما. ثم، ماذا يقولون للحريري؟ سوف تكون رئيساً للحكومة أول العهد العوني أو طوال العهد ؟ هذا فخ مفضوح لأن عبارتهم التالية سوف تكون موجّهة إلى اللبنانيين: انظروا لقد تنازل وقبل بميشال عون كي يعود رئيساً للحكومة ويسوّي أوضاعه المالية على حسابكم ومن خزينة الدولة . هذه محرقة للحريري أتمنى أن يبتعد عنها ويعيد المشكلة إلى الأساس : سلاح “حزب الله” ومشروعه الإيراني للبنان والمنطقة.