كثيرة هي الدراسات والابحاث التي كتبت حول علاقات الصين بالقارة السمراء منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية على يد المعلم “ماو تسي تونغ” الذي حاول جاهدا ان تكون لبلاده اليد الطولى في القارة على حساب الامريكان والسوفييت، فنجح في بعض دولها وخاب في بعضها الآخر.
وقتها كانت أداة ماو للولوج إلى القارة الأفريقية هي الايديولوجيا الشيوعية وشعاراتها البراقة حول مناهضة الاستعمار الغربي وتحرير الانسان الافريقي من الفقر والتخلف وسطوة الانسان الابيض. لكن هذه الاداة تغيرت مع بدء حقبة الانفتاح التي ارسى دعائمها “دينغ هيسياو بينغ” في نهايات السبعينات، وحل محلها كسب ود الأفارقة من خلال الاستثمار في مشاريع البنى التحتية وتقديم القروض الميسرة والهبات، خصوصا مع صعود الصين اقتصاديا وتراكم الأموال في خزائنها. ومن المفيد هنا التذكير بأن القيادة الصينية بدأت هذه المحاولات في بداية الأمر عبر التعاون الثنائي الهاديء، ثم طورتها لاحقا عبر التعاون الجماعي في إطار ما أطلق عليه “منتدى التعاون الصيني الأفريقي”، علاوة على مبادرة “طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين”.
على أن الأسلوب الصيني الجديد في التعاطي مع الأفارقة لا يخلو من الجدل. ذلك أن محللين كثرا يرون في لهاث بكين وراء القارة السمراء وتغلغلها فيها نوعا من أنواع الاستعمار الجديد الهادف الى استغلال ثروات القارة بأساليب ناعمة مختلفة عن أساليب الإستعمار القديم سيء الصيت، خصوصا وأن أفريقيا سوق استهلاكية واعدة للسلع الصينية الرخيصة (ومنها السلاح الذي لا تعترف بكين بالحظر الدولي على بيعه وتسويقه)، كما وأنها منبع ثروات إقتصادية هائلة يحتاجها التنين الصيني في العقود المقبلة لمواصلة صعوده الاقتصادي ومزاحمة النسر الامريكي (بها على سبيل المثال 90% و 50% و30% و9% من انتاج البلاتين والذهب واليورانيوم والحديد الخام في العالم على التوالي، علاوة على 10% و12% من احتياطيات الغاز والنفط العالمية على التوالي)
وبطبيعة الحال ينفي الصينيون هذه المزاعم رافعين يافظة أن “الصين ليس لها ماض استعماري”، وقائلين ان بكين مجرد شريك اقتصادي يعرض المساعدات دون شروط، ويحصل على ثروات القارة مقابل تجديد بنيتها التحتية المتهالكة (تدريب، طرق، مدارس، مستشفيات، ملاعب، مجاري الصرف الصحي، موانيء، ومشاريع زراعية)، والأهم أنه لا يتدخل في الشئون الداخلية كأن يضغط من أجل الديمقراطية وحقوق الانسان والشفافية أو يزيح أنظمة ويثيت مكانها أنظمة أخرى.
إن ما جعلنا نعود إلى ملف العلاقات الأفريقية ــ الصينية هما حدثان استأثرا باهتمام المراقبين مؤخرا:
الحدث الأول هو تدشين بكين لقاعدة عسكرية بحرية في جيبوتي، هي الأولى من نوعها للصين خارج حدودها (إذا ما استثنينا التسهيلات العسكرية الممنوحة لها في بورما والموانيء الباكستانية). وعلى الرغم من قول الصينيين أن القاعدة ليست سوى قاعدة لوجستية الهدف منها هو إمداد السفن الصينية المشاركة في مهام حفظ السلام ومقاومة القرصنة قبالة سواحل اليمن والصومال بما تحتاجه من مؤن وصيانة، فإن مراقبين كثر نظروا إلى الأمر من زاوية التمدد العسكري الصيني المتنامي في المحيط الهندي، خصوصا بعدما أعلن الرئيس الصيني “شي جينبينغ” في وقت سابق من العام الجاري أمام مسؤولين حزبيين وعسكريين في قاعة الشعب الكبرى ببكين “إن على الصين أن تحول قواتها العسكرية بسرعة إلى جيش عالمي”، ناهيك عن الزيادات المستمرة في ميزانية الجيش الأحمر التي وصلت الآن إلى 151 مليار دولار.
وهناك من قرأ الحدث من زاوية إصرار بكين على إستغلال أي فرصة لتثبيت وجودها في القارة السمراء أمام القوى الأخرى المنافسة. ذلك ان جيبوتي، بموقعها الاستراتيجي الهام القريب من باب المندب وسط منطقة مليئة بالصراعات الاقليمية، تحتضن قاعدة فرنسية (الأكبر والأقدم)، وقاعدة أمريكية (بها أكثر من 3 آلاف عنصر وتعتبر الوحيدة لواشنطون في أفريقيا) وقاعدة مشتركة لدول الاتحاد الأوروبي (غرضها مكافحة عمليات القرصنة)، وقاعدة يابانية (انشأت في عام 2009 للتصدي للقراصنة الصوماليين)، علاوة على قاعدة سعودية يجري بناؤها لدعم الشرعية في اليمن بموجب اتفاق وقع في مارس 2015 .
الحدث الثاني تجلى في ازدياد زخم تركيز الصينيين على ربط المدن الافريقية بخطوط سكك حديدية عالية السرعة من خلال تقديم التكنولوجيا والتمويل والإدارة. وهذا الأمر لئن تم طرحه وتداوله منذ العام 2014 في إطار مبادرة “طريق الحرير” الصينية، فإن له أبعادأ وأهدافاً أخرى ربما ذات صلة باستغلال موارد القارة الافريقية، خصوصا إذا ما تذكرنا أن المستعمر البريطاني سلك الطريق نفسه حينما جلب مئات الآلاف من رعاياه الهنود إلى أفريقيا لبناء الخطوط الحديدية. هذا ناهيك عن أن الصينيين منذ عهد مؤسس الصين “صون يات صن” آمنوا بفكرة أن السكك الحديدية السريعة هي الاستراتيجية المثلى للتوحيد وتعزيز الروابط. والجدير بالذكر أن خلفاء “صون يات صن” التزموا بهذه الفكرة التي من تجلياتها قيامهم في الفترة ما بين عامي 1970 و1975 بانفاق 500 مليون دولار وتوظيف 50 ألف مهندس وفني صيني من أجل تشييد سكة حديد “تان ــ زام” الرابط بين مناجم النحاس الغنية في زامبيا والعاصمة التنزانية دار السلام بطول 1800 كلم، طبقا لما كتبه أستاذ العلاقات الدولية الزميل راجا موهان في صحيفة إنديان اكسبرس. والجدير بالذكر في هذا المقام أن الصين هي أيضا التي انجزت خلال6 سنوات خط دار السلام ــ كابيري مبوشي الحديدي في تنزانيا والذي افتتح رسميا في 1976.
واليوم يقع بناء شبكة سكك حديد افريقية في قلب الرؤية الصينية للتوغل عميقا في افريقيا، ويكثر الحديث بصفة خاصة حول خط حديدي يربط ما بين ميناء جديد في لامو بشمال كينيا ودولتي جنوب السودان واثيوبيا اللتين لا تطلان على البحر.
وكنوع من تطييب خواطر الافارقة المستائين من مشاريع صينية لا تخلق فرص عمل، ولا تعتمد في مشترياتها على الأسواق المحلية، تقوم بكين بضخ مليارات الدولارات في صناديق التنمية الافريقية، وتقديم مليارات أخرى في صورة قروض ميسرة مع عروض لتدريب وتأهيل عشرات الآلاف من الأفارقة في الجامعات والمعاهد الصينية. علاوة على ذلك هناك توجه صيني لإسقاط ديون بعض الدول الافريقية. حيث تم بالفعل إعفاء 32 دولة إفريقية من 150 دينا مستحقا للصين، كان آخره ما حدث في الشهر الماضي مع السودان التي بلغ حجم ديونها المستحقة للصين في نهاية العام الماضي نحو بليوني دولار. حيث اسقطت بكين 24 مليون دولار من هذه الديون وقدمت 75 مليون دولار كمنحة جديدة
أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
Elmadani@batelco.com.bh