هذه رسالة مترجمة للعربية موجهة من مثقف كويتي إلى صديقه الأذري وكلاهما ليبراليان وينتميان إلى خلفية شيعية واحدة
صديقي الطيب والإنساني للغاية س. م: تحية حب ووفاء لك ولتربة باكو وسمائها
التربة والسماء لديكم لا زالت نقية رغم كوارث التلوث البيئي، وكذلك طبيعتكم النفسية العلمانية الشيعية لا زالت تقاوم دعوات التطرف الشيعي القادم إليها من بلدان الكويت والمنطقة الشرقية بالسعودية وعُمان، وكذلك إيران بالدرجة الأولى.
لقد التقيت كما تعلم بأكثر من رجل دين شيعي في باكو وكنجه وغيرها، وكذلك التقيت بشكل أقل برجال دين سنّة ورجال دين مسيحيين أرثوذكس. إن الروح الأذرية المتسامحة إلى حد العلمانية وجدتها تطغى بكثير على الروح الدينية والفئوية عند من التقيتهم من رجال الدين من مسلمين ومسيحيين. وهذه ثروة رمزية أهم بكثير من ثروة النفط عندنا في الخليج، حيث تغمر المذهبيات الحاقدة قلوب الناس، فترى السنّة يدعون بالويل والثبور على الشيعة في كل جمعة لأنهم يرفضون خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وكذلك ترى الشيعة يحيون مناسبات موالد ووفيات أئمتهم تكريسا لروح شيعية منغلقة ومنزوية وذات خصوصية خُرافية فريدة من نوعها داخل المجال الإسلامي، حيث تداوم هذه الروح الشيعية على استعارة الحتمية المظلومية التي نَمَت في القرن السادس عشر، وهي في ذات الوقت تطالب بالقصاص من المغتصبين والظالمين لآل محمد في أحداث غابرة مرَ عليها أكثر من 1300 سنة!
لم تكن رسالتك التي ضمت معلومات وافرة مفاجئة بالنسبة لي، فالمعلومات التي أوردتها عن تدفق عشرات الآلاف من سياح الشيعة الخليجيين هذه السنة على أذربيجان، وعن تبرع بعض أثريائهم ببناء مساجد وحسينيات، وعن تبني بعضهم الآخر ابتعاث طلبة علوم دينية إلى “قم” على نفقته الخاصة … كل تلك المعلومات يا صديقي تثير القلق والهلع على الروح الشيعية الأصيلة في أذربيجان، والتي هي غارقة في حب الحياة والإنسان مع روحية صوفية رقيقة وبسيطة تستند إلى مقولات منسوبة للرسول محمد والإمام علي. وهي روح إنسانية خالصة وصافية تنبذ الفقه الشيعي، وتضرب به عرض الحائط دون مداهنة ولا مواربة، وكما سمعت بكل تعجب وإعجاب من رجل دين شيعي في الستينات من عمره في مدينة شيكي الجميلة يقول في جواب عن سؤال طرحته عليه عن سبب الجهل بالفقه الشيعي والعلوم الحوزوية في أذربيجان فقال ما معناه:
“إن ذلك جهل محمود ومرغوب، لأنه جهلٌ يريح النفس من عبء معرفة ضارة، زيادة على كونها ثقيلة ومرهقة وليست ذات جدوى في الحياة العملية المعاصرة! فأحكامُ الفقه الخاصة بالرِدّة والمرأة وغير المسلمين والفن بجميع أشكاله هي أحكام يحاول الفقهاء في النجف وقم والرياض والأزهر إضفاء الصبغة العلمية الموضوعة وغير الأصيلة عليها، حيث الأصالة الشيعية عندنا في أذربيجان ملازمة للإنسان وكرامته وهذا ما شدد عليه القرآن في قوله ( قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)
“أما عن كتب الفقه الكبيرة والكثيرة والتي تقيد حرية الإنسان وإبداعه، فإننا ندرس عوضا عنها فصوص ابن عربي ومثنويات جلال الدين الرومي وقواعد شمس الدين التبريزي وغيرها من الكتب التي تحيي الإنسان، والتي هي خير وأبقى من كتب الفقه التي تقتل الإنسان“.
تعرضت أذربيجان وما زالت لمحاولات وهابية باءت بالفشل عبر رفض الحكومة الأذرية البعثات المعروضة عليها لتدريس طلاب سنة في الجامعات الإسلامية بالسعودية، ولكن استطاعت الوهابية التغلغل عبر حملات الحج في السعودية بتزويد الحجاج الأذريين بكتب التراث الوهابي المترجمة للأذرية.
أما المحاولة الثانية فهي اختراق إيراني بعنوان عودة الهوية الشيعية لأذربيجان، حيث يرى ملالي إيران في التشيع الأذري الحالي تشيعا ظاهريا ليس له إلا الاسم فقط! فلا زال الأذريون الشيعة غير مكترثين بالطقوس الإسلامية والشيعية، ويُعرضون عن الحجاب، ولا يتقيدون بأحكام الفقهاء، غير أنهم يحتفلون بعيدي الفطر والأضحى ويقومون بتوزيع الحلوى في ذكرى مولد الرسول والإمام علي فقط. ويرى شيعة أذربيجان في ذلك ما يكفي لإشباع خصوصيتهم الثقافية، فهم يستلذون أكثر بالاندماج مع غيرهم من مسيحيين وسنّة وملحدين، فتجمعهم الموسيقى والرقص والغناء أكثر من أي شيء آخر، ومن لايعرف عن أهمية الموسيقى في حياة الأذريين فهي تفوق عندنا أهمية مرجع التقليد في العراق، والمفتي العام في السعودية، وشيخ الأزهر في مصر، والولي الفقيه في إيران. فـ”ذوالفقار حاجيبوف” و”عزيز حاجيبوف” وقبلهما “مسلم ماكوميوف”، وغيرهم من عمالقة الموسيقى – وهم بالمناسبة كما تعلم من خلفية شيعية علمانية – هم الرموز التي يفخر بها المجتمع الأذري بما فيهم رجال الدين أنفسهم.
إن التشيع الأذري هو البقية الباقية من التشيع الإنساني الذي لا زال عازفاً عن اندماج أبنائه في الحوزات العلمية التي تقيمها سفارة طهران في مبانٍ مُستأجرة ومملوكة! ولا زالت مقاومة المجتمع الأذري فعّالة لصدّ التشيع القادم من إيران والعراق والخليج. غير أن المال سيلعب دوره في ظل اقتصاد لازال نامياً ولم يقف على قدميه بعد، وربما كان لعلمانية المدارس والتعليم الرسمي في أذربيجان الدورُ الأهم في الحد من انتشار التشيع الدخيل على بيئة لا تفاوض على إرثها المتخفف من قيود التشيع الفقهي السائد في العالم.
ومع كل ذلك لا أخفي قلقي من ضياع وتغير صورة التشيع الأذري الجميل.
فقد كان التشيع الخليجي عندنا قبل النفط تشيّعًا جيدا ولا بأس به، ولم يكن يدخل في تفاصيل الحياة لانحسار اشتغالاته في ذلك الوقت. لكن تغيرت تلك الصورة، فأضحى التشيُّعُ الخليجي طائفياً وملوناً بالكراهية ومصبوغا بالخرافة والشعوذة والأكاذيب، وهو تشيع في مجمله لا يحترم الإبداع والفنون والموسيقى والعلم الحقيقي، ويطالب المجتمع بكل فئاته بتقليد شخصيات لا يعلم عنها أكثر مما يعلم عن التنين وطائر العنقاء!
يتباهى بعض شيعة الكويت بافتتاح حسينية في باكو لتعريف الأذريين بمذهبهم، غير مدركين أنهم يخاطبون شيعة قد تلقوا تعليما أفضل من التعليم عندنا في الكويت! فالتعليم الأذري لازالت تحكمه التقاليد الماركسية -بصورة ما – في التعصب للتجربة والمعاينة والتشكيك والتفحص وعدم الإذعان للنتائج الجاهزة إلا بعد اختبارها. غير أن هناك قطاعاتٍ من الشيعة عندكم لم تنل قسطا وافرا من التعليم، فكانوا أداة طيعة في انحراف التشيع الأذري نحو التشيع الخليجي والإيراني، لذلك ظهرت مجالس العزاء واللطم بصورة ملحوظة في الأماكن الفقيرة وغير المتعلمة.
في النهاية ليس لي إلا أن أؤكد على أهمية تعاضد جهود المثقفين مع الحكومة للحفاظ على صورة التشيع الراقي في أذربيجان العزيزة. ولتعلم فإن محاولة تشويه التشيع الأذري ستستمر عبر الإغراءات المالية كما تم أيضا في محاولة تشويه التسنن الأذري عبر المال الخليجي أيضا.
تحياتي الخالصة
……
التوقيع: مثقّف كويتي
(الرسالة المنشورة أعلاه هي أحد الرسائل التي انتشرت كالنار في هشيم غروبات “الواتساب” الخليجية، وهي رسالة المثقفين والمتنورين الرئيسية راهناً هي مواجهة الفقه السني والشيعي. تحيّات “الشفاف” للكاتب أياً كان).