فضيحة اتهام الصيدلانية منى بعلبكي بالتلاعب بأدوية السرطان ليست السابقة الأولى في لبنان.
كلنا نذكر قضية الادوية الفاسدة ومستورديها الذين لم ينالوا عقابهم ولا نعرف في أيّ درج من ادراج القضاء حُفظ ملفهم. كما لا نعرف عدد ضحاياهم من المرضى. كذلك لا نعرف كيف سيُحفظ ملف بعلبكي او إن كانت ستُحاكَم أم تتحول كبش محرقة أم تُستغَل في البازار السياسي، أم يتوقف الأمر عند قرار الهيئة العليا للتأديب المنتهية صلاحيته كونه تجاوز الأعوام السبعة ليظهر الى العلن، في حين لم تتعرض الهيئة الى أي مساءلة جراء المماطلة وعدم القيام بعملها الرقابي كما يفترض.
كل الأمور ممكنة، ما دامت أفعال معينة لها قدرة الصرف والتصريف في الجمهورية الفاشلة التي نكاد نفقد.
منها مثلاً فعل سرق او نهب او استولى على المال العام او استغل وظيفته او هرب او ارتشى او رشا، او حتى قتل.
قس على هذا المنوال أيها المواطن الناهب والمنهوب والراضي بالمعادلة القائمة على “نيال من نفع واستنفع”.
اما أفعال من وزن حاسب او عاقب او ساءل وكل ما يتربط بتطبيق العدالة والقوانين واحترام سلّم القيم البديهي لكبار النفوس النادرين على ما يبدو في جمهوريتنا الفاشلة التي تكاد تندثر، فالواضح انها أفعال ممنوعة من الصرف حتى يغيّر الله ما في نفوس غالبية هذا الشعب الذي يؤسس حياته الاقتصادية على: يدي في جيبك ويدك في جيب غيرك. ويا دارة دوري فينا.
مرة قال لي مناضل نقابي عتيق وعريق ونظيف الفكر والكف ان اللبناني لا يمكن ان يصطلح لذا يجب ترحيل الأطفال ما دون الثماني سنوات الى دولة لديها قيم وقوانين، ومن ثم حرق كل ما تبقى وكل من تبقى. ربما حينها تتطهر هذه الأرض النجسة، على ان تتم اعادة الأطفال المرحلين عندما يبلغون سن الرشد بعد تربيتهم بشكل سليم ليباشروا بناء بلد. لعل وعسى.
فما يحصل على صعيد الفساد في لبنان يؤكد ان من تهبط عليه النعمة فجأة ومن دون معطيات منطقية، وتظهر آثارها في حياته ومشاريعه، لا يمكن ان يكون نظيف الكف وغير مرتشٍ او غير راشٍ او غير سارق من المال العام او خلافه، او يعمل وفق الاطر القانونية.
في غياب قانون “من أين لك هذا؟” لجميع الذين تولّوا مسؤولية ما في الشأن العام، وفي ظل توافر نماذج العز الذي يناله اللصوص الوجهاء والمجرمون الوجهاء، يتكاثر الفاسدون وناهبو المال العام والخاص، وتتضخم ارصدتهم المصرفية التي يمتد خيرها الى الزوجة والأولاد، ليتناسل المجتمع لصوصاً أبناء لصوص.
فالفساد جريمة متواصلة، وليس ظاهرة موسمية ولا تقتصر على العابثة بأدوية السرطان ومن كان يشاركها. كما لا تقتصر على اهل الحل والربط من السياسيين واقربائهم وكل من يدور في فلكهم.
ذلك ان نسبة المستثمرين في الفساد تكاد تتجاوز ثلث الشعب اللبناني، والا كيف نفسر طفرة الأثرياء الجدد.
جريمة هذه الموظفة انها ضُبطت وخرجت قضيتها الى العلن، ولو بعد فترة طويلة تدل على فساد أجهزة الرقابة التي تلكأت، لنصل الى مرحلة لا من يحاسِب ومن يحاسَب.
اما من يسرقون ولا يُضبَطون فهم لعمري أكثر من الهم على القلب. نصادفهم في كل بيئة وربما في كل بيت، ويحظون بالمحبة والاحترام. ويضيقون ذرعاً بكثرة المتملقين.
الاثرياء الجدد بشعون أكثر مما يمكن التخيل. مقرفون الى أبعد من الغثيان. حتى انهم أبشع من أثرياء الحرب الذين لا يزالون يحكموننا ويتحكمون بنا.
حقارة الجيل الجديد من مجرمي الفساد هي في سرعة تحولهم تحت ستار النفاق الاجتماعي الى وجهاء ووجيهات ورجال وسيدات أعمال. المضحك المبكي انهم يأخذون وجاهتهم المهلهلة على محمل الجد، ويغارون على الأصول والاتيكيت. و”je vous en prie”.
كل من حولهم يهلل لهم ويحتفي بهم ويحبهم.
بئس هذا الحب الانتفاعي الوسخ.
الانكى ان هؤلاء الأثرياء الجدد يسارعون الى ادانة صغار اللصوص الذين يتم ضبطهم، واذلالهم إن هم تمكنوا من ذلك.
أما الأهم فهو حين يسعى هؤلاء الى القتل المعنوي لكل من يرفض فسادهم ولو صامتاً، كأنه يدينهم او يفضحهم، والأكيد انه يحتقرهم بصمته.
مرة قلت اني لا احترم الفاسدين السارقين، فنظرت اليَّ حديثة نعمة بسخرية واستهزاء وأجابت بما معناه ان من اقصدهم يعتبرونني نكرة، ولا يهمهم إن كنت احترمهم او احتقرهم.
على فكرة، يتميز الأثرياء الجدد من فصيلة الفاسدين، بالفجور والحقد على كل من لا يشبههم. يشعرون ان كل صاحب قيم ومبادئ يعريهم، وتحديداً عندما يمعنون في تأدية أدوار الرقي وهم في الواقع قمة الابتذال، فيحاولون محوه بنظرة استعلائية وساخرة.
أحد هؤلاء الأثرياء الجدد ممن يبرعون في معرفة من اين تؤكل كتف المال العام، نصحني بأن املأ جيوبي ما دمت قد توليت وظيفة تتيح لي ذلك، لأن مثل هذه الفرص لا تتكرر في الحياة.
كأن البيئة اللبنانية تفرز غازات “الشطارة” التي تشكل الغطاء لكل سرقة ممكنة مخالفة للقوانين والأديان في لبنان وفي غالبية البلاد التي تشبهنا.
لكن غياب المحاسبة والمساءلة عندنا يشجع الفاسدين على الامعان في نهبهم المال العام والخاص.
منى بعبلكي ليست ربما الا خلية سرطانية واحدة من خلايا كثيرة وبأوجه كثيرة تفتك بهذا البلد.
المهم ان لا يتم القبض عليك بالجرم المشهود. والأفضل أن تكون لصاً كبيراً لأن اللصوص الكبار لا يرحمون اللصوص الصغار. يسارعون الى تحميلهم مسؤولية السرقة كلها ويتنصلون.
مشكلة اللصوص الصغار انهم لا يجيدون السرقة. لذا تتم شيطنتهم من ذوي القربى أولاً. وغالباً من ذوي قربى أجادوا السرقة وبانت عليهم مظاهر الثراء واصبحوا كالوحوش يقتاتون اللحم النيئ ولا يشبعون.
ليست منى بعبلكي وحدها المجرمة في قضية سرقة ادوية السرطان.
هي الواجهة فقط، والاغلب ان اللاعبين خلف الستارة من مسهلين وممولين سيتنصلون منها وينفذون بأفعالهم وجرائمهم.
ليس قتل الأبرياء بالدواء الفاسد هو الجريمة الوحيدة في هذا البلد. فقد تعددت الجرائم التي لم تعد تحصى في غياب قضاء فاعل وعادل وفي اضمحلال مفهوم الأمن، وكأن هناك من يسهّل حصول هذه الجرائم وتوريط أكبر عدد ممكن من اللبنانيين بها ليتردى وضع لبنان أكثر فأكثر ويصبح إمرار المشاريع المرسومة له بالحديد والنار والقمع أسهل ما دام الكيان مفخخاً بمتورطين يسهل ابتزازهم وتطويعهم وما دام مفهوم المواطنة غائبا لحساب شريعة الغاب السائدة.
جمهورية فاشلة كالتي تحول اليها لبنان يسهل جرّها الى حيث يشاؤون. الاتهامات الموجهة الى منى بعلبكي ستمر كما مر غيرها. وكل فضيحة من هذا الوزن ستبعدنا عن أي خير مرتجى في هذا البلد.
من يعش يشهد ويبلغ.