جاء في الاخبار ان قوات الأمن العراقية نفت تقارير وزارة الدفاع الروسية عن مقتل زعيم “داعش” أبو بكر البغدادي في غارة جوية على مدينة الرقة، وأكدت أن زعيم التنظيم لا يزال مختبئاً في #سوريا.
هذا التضارب في مصير البغدادي يذكّرنا نحن اللبنانيين بتضارب مشابه لمصير لزعيم “فتح الإسلام” شاكر العبسي. ففي حينه لم تتمكن السلطات اللبنانية من تأكيد وفاة العبسي، اثر سقوط مخيم نهر البارد الفلسطيني حيث كان معقله، ومنه قاد حربه ضد الجيش اللبناني، واعتُبر الارهابي المتخرج في سجون النظام الأسدي فاراً من المخيم بمساعدة طرف نافذ، والبعض تحدث عن صفقة أمنية، ثم كثرت الاقوال بأنه لجأ الى سوريا.
هذه البروفة اللبنانية التي شهدت ولادة “فتح الإسلام” لغايات لا تشذ عن السلوك الأسدي حيال لبنان، نمت وتوسعت وتطورت لتنجب غولاً عرفه العالم تحت تسمية “داعش”. واضح في هذه البروفة، التشابه سيرةً ومصيراً، لتعيدنا الى مربط خيل استخدام الإرهاب بغية تنفيذ مآرب دفعنا وندفع أثمانها وسندفع المزيد من سيادتنا وقرارنا الوطني.
فالتقاطع ملموس في مسار الرجلين الملتبس مع نشأة عصابتيهما في ظل النظامين المهيمن عليهما رأس محور الممانعة، ولجهة غض النظر السلطوي في سوريا والعراق عن نشاطهما الإرهابي في معتقلات أكثر من نازية، الداخل اليها مفقود والخارح منها مولود، ولجهة الحرب التي اعلاناها سواء في الموصل او في مخيم نهر البارد الفلسطيني، ولجهة أسلوب الذبح والقتل الذي اعتمداه للترهيب وتضخيم حجميهما، ليبقى فارق وحيد وهو اعلان الحرب المقدسة على “داعش” مع استدعاء حماية دولية تبرر تدخل محور الممانعة في الحرب على الموصل، ومن ثم على مناطق أخرى في العراق وسوريا حيث بيت القصيد، مقابل اعلان الأمين العام لـ”حزب الله”السيد حسن نصر الله ان مخيم نهر البارد خط أحمر لدى تولي رئيس الحكومة آنذاك، فؤاد السنيورة، قراراً سياسياً بتغطية الجيش اللبناني ودعمه في معركته لتنظيف المخيم من “فتح الإسلام” وتولي شؤون الفلسطينيين النازحين من المخيم وفق ارقى معايير الإنسانية التي جعلت منظمة الاونروا في حينه تبدو متخاذلة.
بعد هذا الفارق، يعود التقاطع في اختفاء مقاتلي “داعش” ومقاتلي “فتح الإسلام”، الذين لم يظهر منهم الا بضعة مساكين لا يجيدون فنون القتال، يعدّون على أصابع اليد الواحدة، خرجوا ضائعين جياعاً وأكلوا اغصان الشجر.
اما الذين تمترسوا وحاربوا في المخيم واصطادوا خيرة شباب الجيش اللبناني قصفاً وقنصاً، واعاقوا انتهاء المعارك اشهراً، وعلى رأسهم شاكر العبسي، فقد فروا الى جهة مجهولة، ويحكى ان سيارات مرسيدس بيضاء اخرجتهم وتوجهت بهم الى الحدود السورية.
الامر نفسه في حال البغدادي المجهول المصير. فما حصل في الموصل لا يزال غامضاً. وحكاية الأمين العام لـ”حزب الله” عن دحر “داعش” لم تحصل على الأرض. ولا يعكس ما جرى فعلياً التغني بالشعب العراقي وايمانه والتزامه الفتوى الصادرة عن السيستاني لمحاربة هذا التنظيم الجهنمي، مع تجاهل الغطاء الدولي والتنسيق الأميركي- الإيراني الذي رسم مصير المعركة.
حتى الآن لا أحد يعرف ماذا حصل في الموصل، كيف تهدمت المدينة وصارت انقاضاً، وكيف كانت الحرب، ومَن مع مَن، ومَن ضد مَن، وأين اختفى البغدادي ومعه أكثر من ثلاثين ألف داعشي، ليبقى فقط النازحون وبينهم مئات الألوف من الأطفال، ولماذا لا أسرى من قادة “داعش” لدى المنتصرين. قيل انهم فجّروا انفسهم.
نعرف ان المالكي سلّم الموصل الى البغدادي، بالتزامن مع حملات الترويج لحرب “يزيد على الحسين”،للانقضاض على حكم الشيعة الذي جاء بعد مظلومية استمرت أكثر من ألف وأربعمئة سنة، وذلك عقب الحراك الشعبي السلمي في العراق لمطالب حياتية، إضافة الى تحركات شيعية ضد التدخل الإيراني في العراق.
نعرف ان الرصد في قضايا الانتصار مع العبسي والجولاني والبغدادي وقبلهم الزرقاوي وغيرهم ممن التزموا “دعوشة” كل ما يمكن ان ينال من ثورة الشعوب على الطغاة، سواء في لبنان بعد لفظ وجود النظام الاسدي عام 2005، او في سوريا او العراق، وفي الكثير من التفجيرات التي اجتاحت عدداً من العواصم الأجنبية والعربية، هذا الرصد يكشف ان الآلية ذاتها تقريبا قد استخدمت وتستخدم، كما ان المردود الانتفاعي للفريق ذاته قد اينع وحان قطافه.
لا غرابة في قول البعض ان “ابو بكر البغدادي قدم اكبر خدمات الى رئيس النظام السوري بشار الأسد. فقد أخرج الاسد كل قيادات “داعش” و”النصرة” و”احرار الشام” في سوريا من سجني تدمر والمزّة وتركوهم ليشكلوا حالة تكامل مع “داعش” الذي اطلق قياداته في العراق نوري المالكي حليف بشار الاسد وحليف ايران”.
نعرف ان صناعة الإرهاب وصناعة القضاء عليه ليستا سوى استثمار جيد لمن يجيد الاستثمار.
نعرف ان الأجوبة مستعصية والأسئلة لا حصر لها.والله أعلم بما جرى ويجري. اما نحن فلا نعلم كيف سترتسم الديموغرافيا الجديدة في المدينة ومَن سيضع يده عليها.
كما ان الأرقام تشير الى اللعب الديموغرافي ذاته في سوريأ، سواء لجهة مَن تم قتلهم ومَن تم تسهيل تهجيرهم، سواء على يد النظام الاسدي او على يد “داعش”.
نعرف ان تباشير معركة عرسال بدأت من الخلف، أي من خلف الحدود اللبنانية- السورية غير المرسّمة.
فقد بدأت التباشير التي كان التمهيدلها قد تم وفق المخطط له في الأسبوعين المنصرمين. الأرض جاهزة تماماً كما كانت جاهزة في العراق وسوريا، وقبل ذلك في مخيم نهر البارد الفلسطيني..
المسألة كما قال نصر الله، “وصلت الى النقطة الاخيرة، وهذه هي المرة الاخيرة التي سأتحدث فيها عن جرود عرسال”، مضيفا ان “كل شبكات “داعش” كانت تدار من الرقة من سوريا، الجهات الموجودة في جرود عرسال جهات تنفيذية تتلقى التعليمات من الرقة أو الموصل”. وبعدما ثبت لديه بالوجه الشرعي “أنه يوجد أناس في عرسال يديرون شبكات إرهابية ويستقبلون انتحاريين”.
الامر محسوم اذًا، وهذه هي الاستراتيجيا المطلوبة والمتواصلة من العبسي الى البغدادي، والحزب وحاضنته الإيرانية على يقين من أن هذه الاستراتيجيا ستنفذ بحذافيرها.
وبعد “الانتصار الكبير” المرتقب، سنسمع سيناريواً شبيهاً بسيناريو “استنهاض الشعب العراقي واخراجه من حال الاحباط واليأس والاستجابة الشعبية الكبيرة، التي أعطت روحا معنوية هائلة لأفراد القوات العراقية ودفعت بالآلاف من العراقيين للالتحاق بجبهات القتال والتطوع مما أدى الى تأسيس حشد شعبي شكل قوى حقيقية للعراق”.
فالحديث عن انتصار جرود عرسال المرتقب لن يختلف عن ان “الموصل والانتصارات السابقة، يجب أن تبدأ من الفتوى الشرعية مثلما يفعل كل القادة العراقيين”. البروفة اللبنانية لا تزال تتكرر. وبعد انجابها “داعش”، لا نعرف بمَن ستحبل في الموسم المقبل.
وها نحن حيال اكثر من مليون نازح من الموصل، وحوالى عشرة ملايين نازح من سوريا، ولا نعرف عدد النازحين المرتقبين من عرسال ليكتمل ترسيم الهلال.
sanaa.aljack@gmail.com
“النهار”