مصر ستنتصر. هذا أكيد. ولكن انخراط مَنْ إذا حضر لا يُعد، وإذا غاب لا يُفتقد، في حرب الدواعش عليها، وعلى العالم، مثيرٌ للقرف.
كانت حرب الكويت أوّل حرب، في التاريخ، تمكن الناس من مشاهدة أحداثها، في نقل حي ومباشر، على شاشة التلفزيون. ولم يغب هذا عن ذهن صنّاع السياسة، والقادة العسكريين، وصنّاع الدعاية والإعلام، لأسباب مختلفة. أضفت شاشة التلفزيون على مفاهيم تقليدية، كالحرب النفسية، والدعاية السوداء، وكلها تنتمي إلى الحربين الأولى والثانية، والحرب الباردة، دلالات جديدة، وأعادت دمجها في استراتيجية القتال في الميدان.
ومع تطوّر وسائل وتقنيات الاتصال، في العقدين الماضيين، يمكن القول إن أفكاراً من نوع اقتصاد القوّة والعنف، قد تغيّرت بطريقة غير مسبوقة، بعد نشوء الواقع الافتراضي، للمرة الأولى في التاريخ. فهذا الواقع القابل للتعميم، والقادر على تغيير فكرة الواقع، سلاح من أسلحة الحرب.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالعالم العربي، والصراع فيه وعليه، تكرّست علاقة الواقع الافتراضي، (المصنوع على شاشات التلفزيون، وصفحات الإنترنت) بالواقع الحقيقي على الأرض، في موجة الربيع العربي، التي لاحق الملايين مشاهدها المصرية والتونسية، في التو واللحظة. ومن المؤكد أن العلاقة الجدلية بين الواقعين الافتراضي، والواقعي، قد أثّرت على الموجة المعنية، وأقنعت الكثيرين بإمكانية التلاعب بالواقع الافتراضي، بطريقة تضمن التأثير على الواقع نفسه.
برز هذا، في سياق الموجة نفسها، عندما التقطت أطراف مختلفة أنفاسها، بعد مفاجأة الأيام الأولى، في الثورتين المصرية والتونسية، وحاولت ترجمته في أحداث لاحقة، عندما أصبح التقاط طرف خيط هنا أو هناك، وسيلة “لصنع” ثورة في مكان ما، أو لإرغام ما يوحي باحتمالها في مكان آخر، على البقاء خارج الشاشة، والمُفكر به في آن.
ومن سوء الحظ أن الثورة الليبية كانت ضحية ديناميات، واستيهامات، ورهانات كهذه. ففي كتاب نشره هذا العام، يقول عبد الباري عطوان إن “الثورة الليبية جرى طبخها، وإدارتها، من الطابق العاشر في فندق شيراتون الدوحة، حيث كانت غرفة العمليات الحقيقية”.
من جانبي أعتقد أن الثورة الليبية لم تُطبخ في الدوحة، أو غيرها، ولكن التدخلات والرهانات الخارجية، بما فيها القطرية، حكمت على ليبيا بالمصير البائس الذي تعيشه هذه الأيام. وهذا ما تعززه مقابلة مع “الحياة” اللندنية، وصف فيها محمود جبريل تدخّل قطر في مسار، ومصير، الثورة، لترجيح كفة الإسلاميين. وهذا، أيضاً، ما تجلى في ردود فعل غاضبة من جانب شخصيات ليبية، ومنها كلام عبد الرحمن شلقم، المنشق عن القذافي، الذي اتهم قطر بالتدخل في ليبيا، رغم أنها “لا تساوي حارة” هناك.
كانت هذه التداعيات، وغيرها، في الذهن يوم الأربعاء الماضي، بعد هجوم الدواعش على كمائن للجيش المصري في سيناء. قررتُ مشاهدة “الجزيرة”، التي توقفت عن مشاهدتها منذ مطلع العام 2009، وكما كتبت في حينها، بداعي “القرف”.
بصراحة، حاولتُ أن أرى كيف تُدار الحرب على مصر. لا أعرف ما إذا كانت غرفة العمليات “الحقيقية” ماتزال في شيراتون الدوحة، الذي تكلّم عنه عطوان. ولكن أقول بقدر كبير من الثقة إن العاملين في غرفة كهذه، وإذا افترضنا وجودها في مكان ما من العالم، لم يكن بوسعهم العثور على ترجمة لدمج مفهوم الدعاية السوداء، بالقتال على الأرض، أفضل مما فعلت “الجزيرة” القطرية.
أوّل ما طالعني على الشاشة لقاء مع شخص يدعى الشيخ يحيى عقيل، وصفته المحطة بعضو مجلس الشورى عن شمال سيناء. انقسمت الشاشة، في المقابلة مع المذكور، الذي يرتدي ثياباً تقليدية، إلى قسمين: هو على اليمين، وعلى اليسار بث حي لدواعش في شوارع، أو في عربات ترفع راياتهم، تحت عنوان في الأعلى: “مباشر، شمال سيناء”.
كيف مباشر؟ إما أن لهم مراسلين في الميدان، أو أنهم على اتصال مباشر مع الدواعش، الذين يمدونهم بمشاهد حيّة عن طريق الأقمار الاصطناعية. وماذا عن “الشيخ”؟ لم تقل لنا القناة أين تجري المقابلة، للإيحاء بأنها من قلب الحدث.
خلفية الصورة زرقاء. وضع شخص ما ستارة، أو ملحفة سرير، وراء المعني، ربما للحيلولة دون معرفة المكان الذي تجري فيه. تكلّم “الشيخ” عن المظالم التي يعاني منها أهل سيناء، بما يعني أن الأمور وصلت إلى نقطة اللاعودة، وعن مشاركة الطيران الإسرائيلي في الحرب على “المسلّحين” في سيناء، وعن محاولة الاستيلاء على بلدات، على الطريقتين السورية والعراقية.
بحثت عن “الشيخ” على الإنترنت، فرأيت صوراً بالبدلة، ورباط العنق، واخترت صفحة ظهر فيها، فإذا الصفحة بعنوان “إخوان سيناء” تزينها صور الرئيس الإخواني محمد مرسي، وتصريحات للقرضاوي (يعني لزوم الشغل)، وتصادف أن الموقع نشر مقالة “للشيخ” عقيل في اليوم نفسه، أي الأربعاء، خلاصتها أن مصر وإسرائيل تخططان لضرب… حماس (التنقيط من المصدر). والأهم من هذا وذاك، أن بيان الدواعش عن عملية سيناء كان في صدر الصفحة الأولى لإخوان سيناء. لا بأس.
لم أرد البحث عن بقية الأشخاص، الذين التقت بهم “الجزيرة” خلال وقت قصير قبالة الشاشة، كان الإيحاء العام خلاله أننا على عتبة تكرار سيناريو سورية والعراق، ولكن في سيناء هذه المرّة.
فلننس السياسة. ثمة ما هو أبعد: ماذا عن دير القديسة كاترينا في سيناء؟ ألن يدمره الدواعش إذا ما تمكنوا منه؟ والأهرام، وأبو الهول، ووادي الملوك، والمتحف، ودار الكتب، والدير البحري، وتمثال نهضة مصر، ونُصب الشهداء، وكاتدرائية القديس مرقس بالعباسية، ومقامات الحسين، والسيدة زينب، وحتى الأزهر نفسه، هل لكل هذه المعالم حصانة تفوق المعالم السورية والعراقية؟ أمن أجل انتصار البربرية تُشن الحرب على مصر؟ وماذا سيبقى، منذ سبعة آلاف عام، من مصر المحروسة، في مصر؟ ماذا سيبقى من العالم في العالم؟
مصر ستنتصر. هذا أكيد. ولكن انخراط مَنْ إذا حضر لا يُعد، وإذا غاب لا يُفتقد، في حرب الدواعش عليها، وعلى العالم، مثيرٌ للقرف.
khaderhas1@hotmail.com