توافق من توافق من اللبنانيين في تسعينات القرن الماضي على اعتبار” حادثة بوسطة عين الرمانة ” نقطة انطلاق تؤرخ انطلاقة الحروب المتناسلة في لبنان.
وتعني لفظة “بوسطة” الحافلة المتوسطة؛ (التسمية تعريب لعربات نقل البريد التي باشرها الفرنسيون بين بيروت وجبل لبنان في 1860 وقيام أهل الجبل بتقليدها شكلا وترتيب المقاعد فيها على طريق صفوف ثلاث على التوالي).
كما تشير منطقة “عين الرمانة” إلى إحدى الضواحي الشرقية الجنوبية لبيروت، وهي منطقة مرور طبيعي بين مخيمات الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا و الداعوق وبين مخيم تل الزعتر المشهور في قلب ضاحية بيروت الشرقية وقلب المنطقة الصناعية فيها، حيث تم إسكان الفلسطينيين بها كأيدٍ عاملة رخيصة للمنطقة الصناعية الناشئة حينها. أمّا تاريخ 13 نيسان – ابريل 1975، المصادف يوم الأحد فهو تاريخ للحادثة التي نجمت عن تجمهر أهل منطقة عين الرمانة مزوّدين ببعض بنادق الصيد والأسلحة الفرديية لإحدى الحافلات التي كانت تعبر المنطقة حاملة فلسطينيين عائدين من مهرجان مركزي لهم في مخيمات صبرا وشاتيلا إلى مخيم تل الزعتر. نتج عن الحادث مقتل بضعة من الركاب الفلسطينين ونجاة البعض بينهم سائق البوسطة اللبناني الذي لا يزال حيا إلى اليوم.
لم يأتِ الحادث من فراغ. بل جاء كنهاية لسياق الاشتباكات المتنقلة في مختلف المناطق اللبنانية بعد قيام العدو الإسرائيلي باجتياح الضفة الغربية في حرب 67 وانكشاف النظام العربي، ما سمح باستئناف الحركات الشعبية الفلسطينية والعربية وظهور ظاهرة العمل الفدائي و قبول لبنان بأتفاق القاهرة المعقود بين قيادة الجيش اللبناني الممثلة بالعماد بستاني وبين منظمة التحرير الفلسطينية بأشراف القاهرة. وهو الاتفاق الذي دعمه الشارع الأسلامي بقياداته البيروتية وقواه الطلابية المقاصدية كرد على التهميش الذي مارسته عليها المارونية السياسية زمن الجنرال فؤاد شهاب و جهازه الأمني المشهور باسم “المكتب الثاني” ودعمته أيضا كل القوى العروبية والاشتراكية و الشيوعية و اليسارية عامة.
نتج عن الحادثة قرارٌ من القوى اليسارية ومعها مثيلاتها الفلسطينية بعزل حزب الكتائب والتصادم داخل المجلس النيابي اللبناني بين رئيس الوزراء اللبناني حينها رشيد الصلح وبين أمين الجميّل، شقيق بشير الجميل نجل زعيم الكتائب الشيخ بيار الجميل والذي صار معروفا كشخصية وزعامة سياسية شبابية تتصدر الشارع المسيحي دفاعا عن الحضور والوجود. خصوصا بعد قيام العدو الإسرائيلي بعملية اغتيال القادة الفلسطينيني في بيروت ( عملية فردان) وما نتج عنها من غمز ولمز عن تقاعص الجيش اللبناني في الرد واستقالة الرئيس صائب سلام احتجاجا على عدم عزل قائده. وما انتهى إليه الوضع فيما عرف باسم اتفاقية ملكارات ( أسم فندق يقع في منطقة البوريفاج حيث كانت مكاتب الأجهزة الأمنية السورية المعلنة إلى حين الخروج الظاهري في 2005 إثر إغتيال الشهيد رفيق الحريري). ونهاية حكومة دولة الرئيس أمين الحافظ.
في الواقع ثمة أمور كثيرة تفاقمت و تبدلت منذ ” النكسة” ومنها إخراج منظمة التحرير من الأردن في أيلول 71 و تولي حافظ الأسد و قيام ” تورة الفاتح” ووفاة عبد الناصر وتراجع الدور المصري و هيمنة الدور السوري وانفراده بلبنان و تكبيل صحافته بعد خطف ميشال أبو جودة الصحافي في النهار من قبل القيادة العامة أحمد جبريل بواسطة بعض من أنصاره اللبنانيين من أل البغدادي المقيمين في محلة كاراج درويش.
ليس الهدف من هذه التقدمة التاريخية سوى التأكيد على أمور عدّة:
أولا، وجود خلل في العلاقات بين الطائفتين الذين رسما الكيان اللبناني، المسيحيون (الموارنة) والمسلمون أبناء المدن خصوصا العاصمة بيروت.
ثانيا، تحول لبنان إلى جيب سوري محاصر بعد “النكبة”، وقد عملت الدولة السورية على أخضاعه سواء أكان حاكم دمشق البعث أو القوى الانقلابية المختلفة التي سبقته. و ما رافق هذا من تبدل نسبة التعداد الديموغرافي بين لبنان وسوريا من نسبة 1إلى 3 لتصل الى نسبة 1 ألى 6.
ثالثا، تعثر لبنان في التعاطي مع النزوح الفلسطيني واحتوائه، كان عدد الفلسطينيين النازحين لا يتجاوز 70000 معظمهم من شمالي فلسطين، كان بينهم نسبة مرتفعة من النخب الثقافية والفنية والعاملين في السينما بخبرات يافا واليهود الألمان (مميش) وغيرهم في المصارف والمال (بيدس) و كان معظم هؤلاء على علاقة ببيروت والجامعة الأميركية واكتفى لبنان بايستعاب هذه المجموعات بينما ترك الغالبية الفقيرة المهمشة وهي التي فجّرت الوضع فيما بعد ( كتابات محمد عيتاني والد العزيز حسام تعطي فكرة كافية عن معاناتهم).
إن إضاعة الفرص والتخوف من التقدم لحلول تأخذ في حساباتها أولوية الكيان السياسي اللبنانية والتبصر في معالجة العلاقات اللبنانية والتراجع المتواصل لدور المؤسسة العسكرية اللبنانية في تشكيل أداة ردع لصالح كل لبنان ووقوعها تحت رغبة قادتها في تقلد المواضيع السياسية لحسابات ضيقة، وما رافق ذلك من تطورات ساهم فيها العدو الإسرائيلي كمؤسس و النظام السوري كشريك مضارب و مستفيد بشكل أكثر خطورة من الإسرائيلي المؤسس نفسه، وهو النظام الذي توافق مرات مع الأميركي سواء زمن نيكسون او زمن ريغن أو زمن بوش الأب و ساهم رويدا رويدا بدخول المؤثر الإيراني و الذي سلّم له منفردا الجنوب اللبناني حيث انزاح أهله في معظمهم الى جانب مشروع فكري انساقوا له سابقا في 1505 وسبّب تحجيمهم في 1517 .
أن مشكلة الجغرافيا اللبنانية في انها ساحلية غير مستكملة لساحليتها شمالا وضغط المكان مع تضاعف عدد السكان وتركزهم في منطقة ( بيروت وضواحيها) وطريقة أحتساب الإقامة بحكم الولادة لا الإقامة الفعلية، وطريقة الانتخابات بحيث تأتي النتائج معروفة سلفا للحفاظ على نفس الذهنيات و للأتيان بالأسوأ.
ان عدم قيام كتلة تاريخية لبنانية من مختلف الطوائف متفاهمة على استقلالية لبنان أولا وقيام الدولة العابرة للطوائف ذات الحصرية بالادوات القهرية و ذات القضاء الموحد بين كل اللبنانيين. لبنان القائم على أكثريات أربعة ميثاقية فيما بينها، ندية مع محيطها ومتفاهمة معه، وتنظر الى المستقبل المنظور في القرن القادم والى التاريخ القريب لقرن واحد مضى، وتنظر بجد الى اصلاح التعليم فلسفة ونظاما واليات الى المبادرات الفردية مع ضمان اجتماعي خال من الهدر والسرقات، كل هذه مواضيع يشكل التفكير فيها أملا ببقاء الكيان السياسي اللبناني.
إن على الطائفة الشيعية الكريمة أن تتحسس مدى النكبة التي أوقعت نفسها بها بخياراتها خارج الزمان و المكان و تهويماتها بالتحول الى نظام إقليمي لا تسمح التركيبة الديموغرافية للمنطقة ولا الافكار التي تحملها بالتحقق.
ليست المسألة في كرسي الموارنة وقد لا يبقى للموارنة حضور بعدما اضاعت المارونية السياسية فرصة بناء لبنان السياسي الذي يستطيع الصمود في القرن القادم. وليست المسألة في كرسي الباش كاتب ولا في السلطة التشريعية التي تحولت إلى ملكية معروفة. ولا تترك المسألة بالتنكر لوجود أكثرية رابعة من كل ما تبقى من التجمعات اللبنانية.
هناك صيغ افضل بكثير من العلمانية الفرنسية على اللبنانيين التفكير بها
.
فلنتوقف عن الثرثرة بضع ساعات في السنة من يوم 13 نيسان و الترديد لكل ما هو مستهلك ومجرب وممجوج ولنخفف من الغباء اللبناني العميق فينا، كغباء جمهور القنوات التلفزيونية والكلام موجه لغالبية المتصدرين للمشهد التعبوي، ولنحاول ان نصل الى قواسم مشتركة ولكن بخطوط حمر حقيقية و برؤية واقعية لا تنظر ابعد من خمسين سنة قادمة.
أوّل هذه الحقائق ان الربيع العربي هو خلاص اللبنانيين من كل هذه الأنظمة العربية العفنة وفي مقدمتها النظام السوري، أن المشاركة ضد الشعوب العربية وفي اولويتها الشعب السوري هو خطأ قاتل لمستقبل كل لبنان لا احدى أكثرياته. ولو راح كبيرها يتفاصح بالقول عن حلوله لا محل الدويلة اللبنانية بل شريكا مضاربا للنظام السوري في تمثل مسيرته الشديدة السواد والاجرام وصولا الى الكيماوي. فهل من يتفكر بهذا في ذهابه واتيانه في يقظته و غفوته في أكله ولبسه ونظرته الى المتساكن معهم في دولة واحدة ويدخل في التفاصيل….
لبنان ليس فقط في ظلام الكهرباء من 40 سنة ، بل هو في عتمة الأفكار وصغر العقول و فساد النفوس منذ 100 سنة.
الشخصية اللبنانية ليست أكثر من شخصية ” الحرتقجي”. وأمل ان أكون قد عدمتها.
itani_farouk@live.com
بيروت