يصعب أن تعود سوريا إلى ما قبل مارس 2011، لكن يستحيل التسرع والخلط في الاستنتاج بين تكون مناطق نفوذ مؤقتة نتيجة مسارات التفكك، وبين تركيب دويلات جديدة قابلة للحياة.
تتسابق مراكز أبحاث ووسائل إعلام ومصادر سياسية وجهات رسمية في الكلام عن سيناريوهات تقسيم سوريا بعد أربع سنوات على اندلاع الحراك الثوري والحروب التي فتكت بالإنسان والبلاد والدولة، والتي أدت إلى قيام عدة مناطق نفوذ بحكم الأمر الواقع. لكن الوقائع المتبدلة يمكن أن تعيد رسم الخرائط ومناطق النفوذ، لأن الحالة السورية ترتبط بالمسألة الشرقية الجديدة بكل تعقيداتها.
يستسهل البعض الكلام عن اقتطاع أجزاء لتتبع مشروع “ولاية الفقيه” أو “دولة الخلافة”، ويكثر الحديث عن دولة أقليات في “سوريا صغرى ومفيدة” تمتد من السويداء إلى دمشق، وحتى كسب، مرورا بحمص واللاذقية. وهذا لا يلغي فرضيات “كردستان” و“علويتان” و“درزستان”، وكل هذه الاحتمالات التقسيمية يطغى عليها طابع المغامرة والتحدي وعدم الإلمام بالتاريخ والجغرافيا للمكونات المعنية ولمجمل الإقليم.
بالطبع، من الصعب أن تعود سوريا إلى ما كانت عليه قبل مارس 2011، لكن يستحيل التسرع والخلط في الاستنتاج بين تكون مناطق نفوذ مؤقتة نتيجة مسارات التفكك والاهتراء، وبين تركيب دويلات أو دول جديدة بشكل قانوني وقابلة للحياة من حيث الموارد الاقتصادية. سيتطلب الأمر مخاضا يمكن أن يمتد من سوريا إلى ليبيا ويستغرق عدة سنوات (من خمس سنوات إلى عقد من الزمن)، وليس من الضروري أن يسفر عن تقسيم المقسم طبقا لاتفاقية سايكس بيكو التي مضى عليها قرن من الزمن، بل ربما يجري التوافق على أنظمة فدرالية مرنة تحفظ الكيانات القائمة، أو تتبلور دول فدرالية أوسع تسقط معها حدود الكيانات الحالية وتعتمد المناطقية والجهوية كمعايير للتشكيل، بالإضافة إلى معايير تستند إلى حيز من التجانس الديني والإثني بين المكونات المختلفة. إذا لجأنا إلى مثل ملموس، اعتبر أكثر من مؤرخ أن فصل حلب عن الموصل، كان قطعا لعمق سكاني تجاري تاريخي. لكن بعد السنوات العجاف الحالية أصبح الشمال السوري له عمق اقتصادي في تركيا، وأصبحت دمشق ترتبط ببيروت، والجنوب بالأردن والرقة بالعراق، وهذا الواقع الاقتصادي الجديد المعطوف على تغيير سكاني قسري، سيلقي بظله على سيناريوهات التفتيت أو إعادة التوحيد.
من أجل الإحاطة بواقع انهيار الدولة السورية وتداعياته، لا بد من الإلمام ببعض الوقائع التاريخية المفيدة. قبل عام من قضاء الانتداب الفرنسي على حلم فيصل الهاشمي في المملكة العربية السورية (أول دولة سورية مستقلة بعد زوال الدولة العثمانية ونهاية الحرب العالمية الأولى)، أرسلت واشنطن لجنة كينغ – كرين إلى منطقة الشرق الأوسط من أجل معرفة مطالب السكان حول أسلوب الحكم والحدود، وهي مهمة أتت في إطار سياسات ويلسون الرئيس الأميركي، آنذاك، وإيمانه بحق الشعوب في تقرير مصيرها. ويتضح من قراءة خلاصات اللجنة التنبه إلى الإشكاليات التي تواجه الشرق المضطرب اليوم، لاسيما لجهة صعوبات بناء الدولة القومية وفقا للمعايير الغربية. ورد في الخلاصات حرفيا “أن مسلمي ومسيحيي الشام سيتعوّدون على العيش بتناغم، لأن الوعي الاجتماعي الحديث يحث على ضرورة فهم “النصف الآخر”، وإقامة علاقات وطيدة”. لكن هذا الطرح “المتفائل” لم يمنع نفس اللجنة من التحذير من أن “وضع مجموعات إثنية ودينية متنوعة في دول كبيرة قد يؤدي إلى نتائج دموية”.
ويومها تجرأت اللجنة واقترحت قدرا كبيرا من الحكم الذاتي للبنان في إطار سوريا، وقدرا محدودا من الحكم الذاتي للأكراد. ولامست خلاصتها ما يشبه “النبوءة” لمعطيات المرحلة الراهنة وقد ورد “لا شك أن الحل الآلي للعلاقات المتشابكة والصعبة هو تقسيم المنطقة إلى قطع مستقلة صغيرة، ولكن التقسيم والفصل الشامل في الحقيقة يعززان الفروق ويزيدان من الخصومة”، أي أن مسار التفكك الذي يقود إلى الطلاق والتقسيم يمكن أن يؤدي إلى حروب طويلة، مع نتائج غير مضمونة على ضوء الصعود المدوي للإرهاب والتطرف.
في فترة اتفاقية سايكس بيكو، ولجنة كينغ – كرين، لم يكن هناك حركات إسلامية راديكالية ترفض الدولة القومية من حيث المبدأ. وبعدها نشأت دول وطنية مستقلة تحولت غالبيتها إلى ديكتاتوريات استبدادية أرجعت فشلها إلى نظرية المؤامرة والصراع مع إسرائيل.
وما يهمنا حاليا بالنسبة لوضع سوريا استنتاج الثنائي كينغ – كرين أن “المجموعات الإثنية والدينية المختلفة في المنطقة لا تنقسم إلى وحدات متجانسة منفصلة عن بعضها، بل إن المنتمين لكل مجموعة لا يشتركون بالضرورة في رؤية موحدة لماهية الحكومة التي يريدونها”. وكما ينطبق هذا التوصيف على الأكثرية العربية السنية، ينطبق الأمر على المكونات المسماة أقليات. لا يشكل العرب السنة كتلة متماسكة بل هي متنوعة في الانتشار الجغرافي والنهج السياسي، والأهم ليس في ضمانات تعطى من الطرف المنتصر أو من المجموعة الدولية، بل من خلال مسار عدالة انتقالية لا بد لأي مصالحة وطنية أن تمر من خلالها.
أما بخصوص الافتراضات عن المشاريع الانفصالية للأكراد، فقد لفت الأنظار أنها أتت بعد التطورات الميدانية في الشمال الشرقي ومكاسب قوات الحماية الكردية في وجه “داعش”، وفسر بعض المراقبين الصخب حول الموضوع بتزامنه مع تراجع أردوغان الانتخابي وتركيزه على منع قيام دولة كردية في جوار بلاده، لكن خطاب الأكراد السوريين وأدبيات منظماتهم لا تشي بذلك. ومن سوريا إلى العراق وإيران وباقي العالم يعتبر الأكراد أكبر شعب من دون دولة، لكن الواقعية بعد نكسات القرن الماضي، قادتهم للتخلي عن الحلم الذي راود بعضهم في إقامة دولة على حساب وحدة أراضي دول وازنة.
خلال سجنه الانفرادي في جزيرة آميرالي، بلور عبدالله أوجلان، القائد الكردي الأبرز في المشرق، نظرية أسماها “الحرية لكردستان والديمقراطية لتركيا”، وهذا السعي وراء فدراليات يحمي برأيه الأكراد من العزلة والدروب الشائكة.
بالنسبة للعلويين تبدو الصورة أصعب، لأن ذلك يتعلق بمستقبل المنظومة الحاكمة الحالية. بعد تغيير المعادلة الإستراتيجية مع خسارة الحكم لجسر الشغور وتمدد داعش، بدأ التوجه نحو تطبيق الخطة باء في الحفاظ على “سوريا المفيدة”، إما تبعا لواقع سيطرة النظام الحالية من دمشق إلى اللاذقية، أو حصر ذلك كما كانت حدود الدولة العلوية أيام الانتداب الفرنسي من حمص وصولا إلى جبل العلويين. لكن دون هذا الطرح عقبات كأداء لأن تركيبة الساحل السكانية والمذهبية لا يمكن أن تكون بيئة حاضنة لأي مشروع انفصالي. أما الطائفة العلوية التي خسرت نسبة كبيرة من شبابها، فتخشى ربطها بكل خطايا النظام، وربما تفضل الحماية الدولية على الوصاية الإيرانية. ومن المستبعد أن يسلم باقي السوريين بوضع من هذا النوع بعد شلال الدم والمعاناة.
بالنسبة للموحدين الدروز، ليس هناك أي طرح لمشروع انفصالي أو انعزالي لأن أبناء جبل العرب يعتبرون أنفسهم أم الصبي، والوطنية السورية بمثابة هويتهم الأولى في زمن تصاعد الأثر السلبي للهويات الجزئية القاتلة. لكن الموقف الحيادي على الغالب للدروز إزاء الحراك الثوري، والتخوف الحالي من خطر داعش يضع هذا المكون على المحك مع تسابق النظام لتوريطه إلى جانبه، ودخول إسرائيل على خط “حماية الدروز” مما يعطي بعدا إقليميا للوضع في جنوب سوريا من جبل الشيخ إلى الحدود مع الأردن.
عبر التاريخ المعاصر، لعبت السويداء دورا كبيرا كمحرك ومدافع عن الوحدة السورية (في 1925 وفي أولى عقود الاستقلال) ولذا فإن اندماج أبناء جبل العرب في مشروع وطني بديل عن كل استبداد وإقصاء وتمييز ديني وإثني، يمكن أن يحفز البعض من المكون العلوي للتحرك قبل فوات الأوان وإنقاذ الدولة السورية. في القرن الماضي سقطت مخططات التقسيم من خلال وقفة رموز المكونات الأقلية من سلطان باشا الأطرش إلى إبراهيم هنانو وصالح العلي بالتضامن والتكافل مع عبدالرحمن الشهبندر وحسن الخراط في دمشق وباقي رموز الأكثرية. وهذا الدرس التاريخي مهم جدا في أي مشروع لإعادة توحيد البلاد.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
بخصوص لجنة كينغ -كراين فاللجنة الاميركية حضرت لتقليص التفوذ . الفرنسي . طلبغير المسلمين في سوريا و لبنان من اللجنة وضعهم تحت الانتداب البريطاني. في حال تعذر الغاء الانتداب الفرنسي. هذا الطلب هو بالتحديد ما كان يتماشى مع رغبة الحركة الصهيونية.