يأتي خبر الفعالية التراثية ـ الثقافية المعقودة تحت عنوان «درب المماليك من القاهرة إلى طرابلس» والتي أطلت من بوابة خان العسكر، أحد أبرز الشواهد على العصر المملوكي في المدينة الأخيرة، ليذكّر بالمخزون العمراني الحضاريّ لعاصمة الشمال اللبنانيّ، الثريّ والمهمل إلى حد كبير، ويساهم في الحث على ترميم هذا الإرث وإعادته إلى الواجهة. في بلد تتصارع فيه على المركزية الجغرافية الرمزية ثلاث سرديات، واحدة متمركزة حول جبل لبنان، والثانية حول بيروت، والثالثة حول جبل عامل، يبدو من الصحيّ بمكان التذكير بأنّه في الألف عام الأخيرة كانت طرابلس هي مركز الإشعاع العمرانيّ على ساحل المتوسط أكثر من أي مدينة أخرى، وأنّ العصر المملوكيّ هو بمكانة الأوج الممتد زهاء قرنين بالنسبة إلى هذا التاريخ المديد.
بالوسع المجازفة هنا، بأنّ الإضاءة على ما يجمع طرابلس بالقاهرة، انطلاقاً من هذه الذاكرة «المملوكيّة» المشتركة، يبعث على شيء من التوازن، في مقابل السردية «اللبنانوية الإلحاقيّة» من ناحية، والسردية التي تركزّ على ما يجمع طرابلس ببرّ الشام «فوق اللزوم»، وتلك التي تعزف على موّال «النوستالجيا العثمانية». كذلك سردية «العروبة» البحت يفترض أن يأتي استذكار العصر المملوكيّ لإقلاقها هي أيضاً. فالسلطنة المملوكية، جعلت من «الرق العسكريّ» العنصر البشريّ للطبقة الحاكمة، في مقابل «الأحرار» من الرعايا، ولغة هؤلاء المماليك سواء في عصر دولتهم «البحريّة» القبجاقية ـ التركية، وما تلاها من دولة المماليك «الجراكسة» البرجية، ما كانت العربية، وإن بقيت الأخيرة لغة الديوان وعلماء الدين.
المثير في المقابل أن تمرّ هكذا فعاليّة من دون «أخذ وردّ» يذكر. من دون إظهار أي اختلاف «مشاعريّ» أو «تقييميّ» حيال العصر المملوكيّ وعلاقة لبنانيي القرن الحادي والعشرين به. فأن تكون الفعاليات التراثية ـ الثقافية في منأى عن السجالات الهوياتية المحتقنة فهذا أمر حسن، إنما أن يمرّ هذا النوع من الفعاليات من دون أي تنشيط للمختلف حول المماليك، وانطلاقاً منهم، فليس هذا بدليل عافية. الاكتفاء بالكليشيهات حول «عبق التاريخ» واستذكار أسماء الصروح المملوكية في مدينة طرابلس كما لو أن تعدادها يخلق مناخاً من الشاعريّة الانتسابية، أو رهن المسألة في خانة «الآثار وترميمها»، و«السياحة وترويجها»، والتطرّف الدينيّ والنأي بالذات وبالنحن عنه: كل هذا يفوّت الفرصة على النقاش في ماضينا، كما في حاضرنا.
ينقسم اللبنانيّون حول المماليك. لماذا علينا إهمال ذلك أو عدم التطرّق إليه. بل ينقسمون حولهم بضراوة. طرابلس مثلاً. بها أكبر مخزون أثري مملوكيّ لأنه وبعد أن استولى عليها السلطان سيف الدين قلاوون القبجاقي الألفي ـ المستجلب طفلاً إلى مصر من منطقة شمالي البحر الأسود ـ عام 1289 جرى تدمير طرابلس الإفرنج، وبعد زهاء قرنين على بدء الحملات الصليبية لم تكن «كونتية طرابلس» اللاتينية مجرّد معزل للآتين من أوروبا، بل كان أكثر مسيحيي هذه الكونتية من «البلديين» ويفترض بالتالي للناجين منهم اللجوء إلى المناطق الجبلية من بعد سقوط المدينة.
مثلما لا يمكن إلزام طرابلس بسردية متمركزة حول «جبل لبنان» أو «بيروت» أو «جبل عامل»، كذلك ليس من الوجيه استمرار الإنكار بأنّ ما حدث في إبريل 1289 يمكن القفز فوقه بـ«موضوعية باردة» حيناً، أو باحياء هذه الواقعة كمنطلق يؤرخ للمدينة انطلاقاً منه. لا يختلف اللبنانيون فقط حول سلاح «حزب الله». يختلفون حول سلاح المماليك أيضاً. هل هذا أمر لا صلة له بحاضرنا؟ كيف يمكن أن لا تكون له صلة، والطوائف قد طورّت كل واحدة سردياتها الأسطورية ـ التاريخية. فعند الشيعة أن طرابلس كانت عاصمة لإمارة شيعية قبل الصليبيين ومن بعدهم المماليك. أما الشيعة والموارنة فيتنافسون ـ منذ قرن تقريباً، ومن خلال «مؤرخي الطوائف» ـ عن أي الجماعتين كانت هدفاً للتطهير العرقي المملوكي في كسروان أكثر من الثانية. هذا ناهيك عن دور الفقيه الحنبلي ابن تيمية في الحملة المملوكية على كسروان، يقابلها سلوكه المشاكس تجاه ولاة الأمر في تلك الحقبة وقد مات فيها مسجوناً.
لا يلغي كل هذا في المقابل أن السلطنة المملوكية كانت واحدة من أقوى «دول» العالم في نهايات العصر الوسيط، وأنّ الحياة الأدبية والعلمية والفنية كانت فيها ناشطة ولا يمكن تقزيمها في خانة «عصر الانحطاط الطويل» على ما دأب القوميّون العرب، وأنّ أحوال أهل الكتاب من ناحية، وخارطة التجارة بين البلاد المملوكية وبين القوى «المسيحية» المختلفة، لا يمكن أن تختصر في كليشيه واحد، بل أن بعض المماليك من الأصول «الكرجية» أو «الجيورجية» لم يقطع تماماً مع أصوله المسيحية، خلافاً للاعتقاد الشائع، مثلما لا يمكن فصل الهمّة المملوكية لتقويض الإمارات الإفرنجية المسيحية في ساحل الشامل، عن التوسّع المملوكيّ جنوب وادي النيل، في اتجاه إخضاع الممالك المسيحية في النوبة الواحدة بعد الأخرى. باختصار، كما أن الانقسام حول المماليك يفترض البوح به، لا إضماره أو طمسه، كذلك «تنويع» النظرة إلى تاريخ المماليك، هو واحد من «التمارين» غير الثانوية أبداً، إذا ما أردنا تنويع النظرة إلى مشكلات الحاضر وتحدياته أيضاً.
عندما اجتاح جيش السلطان العثماني سليم الأول البلاد الحلبية والشامية فالمصرية من سلطنة المماليك، كانت تجربة تعتمد على «الرق العسكري» المستمد من اقتطاع قسم من أطفال المناطق التي تم إخضاعها في البلقان، من خلال نظام «الدوشرمة»، تتغلب على تجربة تعتمد على «الرق العسكري» المعتمد على قوافل الاتجار بالعبيد. لقرون طويلة، كان «الرق العسكري» بوجهيه المملوكي والدوشرميّ هو العنصر الأساسيّ الذي تعتمد عليه القسمة بين «العسكر» وبين «الرعايا». والأكاديميا الإسرائيلية، من خلال أعمال المؤرخ ديفيد أيالون وتلامذته، أولى اهتماماً لافتاً لتجارب «الرق العسكريّ» هذه ودورها الحضاريّ في هذه المنطقة من العالم. كثيراً ما تضيع مناقشة هذا «البعد» على المقلب الآخر، لنقل «من طرابلس إلى القاهرة»، أو أبعد من ذلك. فهذه الخانات والحمامات والتكايا الشاهدة على العصر المملوكي، لا يمكن فصلها عن مفارقات استناد تلك المرحلة الحضارية الثرية والمتنوعة للغاية إلى الرق العسكريّ بشكل أساسي، أي إلى حيث يكون الحكم للعبيد، والمحكومية للأحرار، وإن كانت أحوال الرعايا، بطوائفهم المهنية المختلفة، أبعد ما يكون عن مجرّد «الخضوع»، لا بل أن المؤرخ ايرا لابيدوس يذهب إلى أن الناس عموماً، والنساء خصوصاً، كانت أكثر حرية في المرحلة المملوكية، مقارنة بالحقبة العثمانية التي تلتها. أيضاً، ورغم غرابة النظام المملوكيّ بحد ذاته ـ عبيد يشترون ويتسيدون على أحرار الناس ولا يمكنهم في المقابل توريث امتياز العبودية الى أولادهم ـ فإنّ الشعور العام لأبناء الولايات العربية عندما قوّض العثمانيون حكم المماليك هو أنّ الحكم الجديد يصدر أوامره من عاصمة بعيدة عنهم، وأنّه «أكثر أجنبية» بالنسبة لهم، قياساً على المماليك، ففي نهاية الأمر كانت القاهرة عاصمة سلطنة هؤلاء، وطرابلس عاصمة «نيابة السلطنة»، ولم يعد للمدينتين مثل هذا في الحقبة العثمانية، ولو أن البعد الجغرافي للأستانة لم يلبث أن أعطى مساحة أكبر للتفلت من المركز شيئاً بعد شيء.
