لا تكاد أزمة سياسية في تايلاند تنتهي إلا وتنشأ محلها ازمة سياسية جديدة، وكأنما حكم على هذه المملكة الدستورية ألا تعيش استقرارا سياسيا طويلا. فخلال الأعوام القليلة الماضية وقعت عدة انقلابات عسكرية وتغيرت عدة حكومات وظهرت وجوه قيادية جديدة واختفت أخرى، بينما ظل شخص واحد يدير اللعبة من وراء الكواليس ويٌناكِف الجيش وقادته والنظام الملكي والحرس القديم، تارة من داخل البلاد وتارة أخرى من منافيه القريبة او البعيدة. هذا الشخص هو رئيس الوزراء الأسبق ورجل الأمن والشرطة القديم المليونير “تاكسين شيناواترا”، الذي يريد تغيير ما لا يمكن تغييره وهو النظام الملكي ودور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية.
في نهاية شهر أغسطس المنصرم اصدرت المحكمة الدستورية في بانكوك حكما بإعفاء رئيسة الحكومة “بايتونغتارن شيناواترا“ من منصبها، بعد عام فقط من تنصيبها، بتهمة انتهاك كرامة البلاد والمعايير الاخلاقية في مكالمة هاتفية مسرّبة اجرتها في يونيو الفائت مع الزعيم الكمبودي المخضرم “هون سين”، لتصبح السيدة شيناواترا خامس رئيس حكومة يعزل من منصبه.
وملخص القصة أن بايتونغتارن حاولت تهدئة التوترات والنزاعات الحدودية مع الجارة الكمبودية بإجراء مكالمة تصالحية مع نظيرها الكمبودي. في تلك المكالمة انتقدت قادة جيشها كسبب في اندلاع النزاع، لكنها انتقدت “فنوم بنه” أيضا لدورها في تأجيج الخلافات عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي. اعتبر “هون سين” ذلك الانتقاد بمثابة اهانة لنظامه الذي سبق وأن قدم المأوى والحماية لوالد رئيسة الحكومة (تاكسين شيناواترا)، وقام بتسريب المكالمة. هنا تحركت المحكمة الدستورية التايلاندية، بضغط من القادة العسكريين، في يوليو الفائت لمساءلة بايتونغتارن على تصرفهاالمحرج، كما برزت في الوقت نفسه دعوات برلمانية لعزلها، بل وانسحب حزب “بومجاي تاي” (الفخر التايلاندي) وهو أكبر شريك لحزبها (حزب بيوا تاي او “من أجل التايلانديين”) من الائتلاف الحاكم، تاركا لها أغلبية ضئيلة في البرلمان.
جاء حكم المحكمة ضدها، والذي اتخذ بأغلبية سبعة قضاة من أصل تسعة، إلى تعزيز اعتقاد سائد مفاده أن السلطة القضائية في بانكوك تفرض رقابة شديدة على الأحزاب السياسية وقادتها المنتخبين، وتصدر دوما أحكاما قاسية ضد كل من يهدد النظام الملكي والقوى المحافظة المؤيدة له، بدليل أن المحكمة ذاتها حظرت في وقت سابق عمل 111 حزبا سياسيا، وعزلت جميع رؤساء الحكومات الذين مثلوا أمامها باستثناء الجنرال “برايوت تشان أوتشا” الذي قاد انقلاب 2008، ومن بينهم خمسة مرتبطون بتاكسين شيناواترا. ففي عام 2008 عزلت “ساماك سوندرافيج” بتهمة تقديم برنامج طبخ تلفزيوني وتقاضي أجر مقابل ذلك، ثم عزلت بعد أشهر خليفته “سومتشاي وونغساوات” بتهمة تزوير الانتخابات. وفي عام 2014 عزلت “ينجلوك شيناواترا” شقيقةتاكسين بتهمة إساءة استخدام سلطاتها عبر تعيينات غير قانونية. وفي العام الماضي عزلت “سريتا تافيسين” بتهمة تعيين وزير في الحكومة كان مدانا بالسجن. هذا ناهيك عن إصدار المحكمة حكما في عام 2019 بحل حزب ” تاي راكسا تشارت” المرتبط بتاكسين بتهمة معاداة الملكية وترشيحه أميرة لمنصب رئيسة الوزراء، وحكما آخر في عام 2020 بحل حزب المستقبل الفائز في انتخابات 2019 بتهمة الحصول على قرض غير قانوني، وحكما ثالثا في عام 2023 بحل “حزب التقدم إلى الأمام” بتهمة قيادة حملة لتعديل قانون العيب في الذات الملكية.
وبقرار المحكمة الأخير، دخلت تايلاند مرحلة جديدة من عدم الإستقرار السياسي وسط فوضى برلمانية، وتراجع شعبية عائلة شيناواترا، ووجود قائمة محدودة من الشخصيات التي يمكن ان تتولى قيادة البلاد، الأمر الذي من شأنه أن يعقد مسألة إجراء انتخابات مبكرة قبل موعدها القانوني في منتصف عام 2027، كما ينص الدستور في مثل هذه الأحوال.
لكن يبدو أن شيناواترا الأب، الذي بالغ في تفاؤله بشأن تبرئة إبنتها السياسية المبتدئة عديمة الخبرة، يعتزم البقاء في الحلبة السياسية وعدم الإستسلام، طارحا أسماء جديدة من أتباعه وحلفائه لخلافة إبنته، مثل السياسي العجوز المعتل صحيا “تشايكاسيم نيتيسيري”، أو إبنته الأخرى المنعزلة عن الأضواء “ بينتونغتا” كي يقود أحدهما إئتلاف “بيوا تاي” المتذبذب ويواصل قيادة الأمة.
وصفت صحيفة “نيويورك تايمز” ما حدث بالمفارقة الدائمة في السياسة التايلاندي، مضيفة أن هذه البلاد تبدو ظاهريا “ملكية دستورية تجري إنتخابات دورية وتنافسية بمشاركة عالية من الناخبين من جيل الشباب الناشط سياسيا، لكنها عمليا تبدو مدينة بالفضل لمؤسسة غير منتخبة تضم الجيش والقضاء والعائلة المالكة والساسة المحافظين القدامى”.
وهذا صحيح بدليل أن تايلاند شهدت أكثر من 12 انقلابا على يد المؤسسة العسكرية، وبدعم من البلاط الملكي والحرس السياسي القديم، منذ انتهاء الملكية المطلقة عام 1932.
ونختتم بالقول أن هذه التطورات تلقي بظلال من الشك على استدامة اتفاق مصالحة يُعتقد أن شيناواترا الأب أبرمه مع البلاط الملكي للسماح له بالعودة إلى تايلاند من منفاه الاختياري بعد 15 عاما قضاها هاربا من حكم جنائي، مقابل خضوعه للتاج الملكي، والجدير بالذكر أنه بموجب اتفاق المصالحة هذا تم تخفيض الحكم عليه بالسجن من ثماني سنوات إلى سنة واحدة جراء عفو ملكي.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
