بعد مظاهرة رام الله المعادية للسلطة، ناشد معلّقون في غزة، على صفحات التواصل الاجتماعي، “أهل الضفة الغربية”، أن يتعظوا من تجربة غزة. لديكم على الأقل، كما قالوا، كهرباء 24 ساعة في اليوم، والمعبر إلى الأردن مفتوح. المُناشدون، بطبيعة الحال، من معارضي حكم حماس.
ولا يحتاج الإنسان ليكون مُعارضاً تحت حكم حماس في غزة، لإدراك حقيقة أن الكهرباء ومعبر مفتوح مِنْ، وإلى، وعلى، العالم، يدخلان في باب المشاكل الوجودية للناس، هناك، ويتدخلان في ملايين تفاصيل الحياة اليومية. ولكن الإنسان يحتاج إلى قدر من الشجاعة للخروج مِنْ، وعلى، بلاغة الوطنية السائدة، للهبوط مِنْ تقليد وتقاليد المُتعالي إلى الأرضي والدنيوي. وهذا ما تحلى به هؤلاء.
في القرن الثامن عشر، صدرت عن صامويل جونسون عبارة ذهبت مثلاً: “الوطنية هي الملاذ الأخير للأنذال”. والمقصود، حسب مُفسّرين، الوطنية الزائفة، التي يلوذ بها من أعيته الحجة، وخذلته الوسيلة، وكل مَنْ سعى لتمويه غاية لا تمت للصالح العام بصلة.
الوطنية في العالم العربي أرخص السلع، وأضمنها ربحاً، وأكثرها قابلية للتداول في سوق السياسة والرياسة والنخاسة. وهي ليست حكراً على أحد دون أحد، بل هي ديمقراطية إلى حد يثير الفزع، يتداولها الحاكم والمحكوم، ويقود الزائف منها إلى نتائج كارثية. وإذا تجلّت للعيان ككارثية، إلى حد يصعب إنكاره، تُعالج الوطنية الزائفة بمزيد من الوطنية الزائفة، أي بالتطرّف، والمبالغة، والمزايدة، وهي اكسسوارات رخيصة الثمن.
ولكن، هل ثمة إمكانية للقياس والحكم على وطنية ما بالصادقة أو الزائفة؟ وما هو الصالح العام؟ ألا يمكن الكلام عن الوطنية على طريقة صامويل جونسون، بوصفها محاولة لتجريد الخصوم من الحق في الاختلاف والمعارضة؟ وحتى وإن كانت الوطنية صادقة، وغايتها الصالح العام، فإن بلاط الجحيم، كما يُقال، مفروش بالنوايا الحسنة، ألم يحدث أن كانت نتائجها كارثية؟
هذه أسئلة مشروعة، وضرورية، للحيلولة دون احتكار الحق في الوطنية، أو زعم النطق باسمها، وحماية الصالح العام، من جانب أحد. لذلك، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالتفكير في أسئلة وتساؤلات كهذه، تقتضي الحكمة الاحتكام إلى التجربة التاريخية البعيدة والقريبة، والتحليل المُقارن، على خلفية ظروف متغيّرة، ووعي حقيقة أن ما قد يبدو مبالغة في يوم ما قد يتجلى خلاف ذلك في يوم آخر.
وفي سياق كهذا، أجد نفسي في خندق واحد مع الذين ناشدوا “أهل الضفة الغربية” أن يتعظوا مما حدث في غزة، ولغزة، من ويل وثبور وعظائم الأمور. فالاحتكام إلى التجربة التاريخية القريبة (والبعيدة) لا يمكننا من التغاضي عمّا آلت إليه الانتفاضة الثانية، التي تعسكرت بسرعة قياسية، وتحللت فيها آليات الضبط والسيطرة، وأسفرت عن هزيمة عسكرية وسياسية لم نكف عن تسديد فواتيرها حتى الآن.
وبالقدر نفسه، فإن الاحتكام إلى تحليل مُقارن بين ما يمكن أن يحدث، هنا، وبين ما حدث ويحدث في أماكن مختلفة من العالم العربي على مدار السنوات القليلة الماضية، لا يُحرّض على قدر كبير من التفاؤل، في حال تقويض السلطة في الضفة الغربية (بما لها وما عليها) بالانفلات الأمني. فالموجة الداعشية لا تنحصر في مكان دون غيره، ولا تقتصر على قضية دون غيرها، بل تتجلى في كل مكان ضعفت فيه السلطة المركزية، فبنيتها الأيديولوجية وافرة ومتوفّرة، وكذلك رعاتها في الإقليم، الذين أفرغوا الثورة السورية من مضمونها الوطني والأخلاقي، ودسوّا أنوفهم، وأنيابهم، في كل مكان آخر.
وتحضر، هنا، مدوّنة نشرها عراقي، من الموصل، على صفحة إلكترونية كرّسها لتسجيل انطباعاته ويومياته كمواطن شهد احتلال الدواعش، وعاش في ظله. طرح المذكور، بعد مرور قرابة شهر على الاحتلال، الأسئلة التالية: “من هم المسلحون المنتشرون في الموصل؟ من أين جاؤوا؟ وكيف انتشروا هكذا بهذه السرعة؟“. وهذه، في الواقع، هي الأسئلة نفسها التي شغلت المعنيين في أربعة أركان الأرض بعد سقوط المدينة.
وفي معرض الجواب يبدد المؤرخ الموصلي ما شاع من تحليلات حول قدوم قوّات الدواعش من سورية، فالمدينة (كما يقول) خضعت لسيطرة المسلحين، قبل هذا التاريخ بعامين، بينما سلطة الدولة “حبر على ورق”، وكانت لهؤلاء انتماءات وتسميات مختلفة، وهم ما تبقى من الجماعات المٌسلّحة التي قاتلت الأميركيين حتى خروجهم. وقد تقاسموا النفوذ في مناطق وأحياء المدينة،، فمارسوا سلطتهم وفرضوا الخوة والضرائب على الناس، والتحق بعضهم بمؤسسات وأجهزة الدولة انتظاراً لساعة الصفر.
وفي تحليل المؤرخ الموصلي، كانت “القاعدة” التي ستصبح “داعش”، مجرّد جماعة مُسلّحة بين جماعات كثيرة غيرها، وأصبحت لها اليد الطولى عن طريق التحالف التكتيكي، والغدر، وقتل وترويع المعارضين من أسياد الحرب الآخرين. بمعنى آخر، شاركت كل الجماعات المُسلّحة في زعزعة سلطة الدولة، وحصد “الدواعش” ما زرع الآخرون.
وعن “عناصر الدواعش”، الذين انتشروا بين ليلة وضحاها في شوارع المدينة، يذكر المؤرخ الموصلي أن البعض جاء من مدن وأرياف قريبة (كان الود مفقودا بين قاطنيها والموصليين لأسباب سوسيولوجية وثقافية يطول شرحها)، والبعض الآخر من المدينة نفسها. وهؤلاء (يعرف بعضهم بصفة شخصية) لم يكونوا معروفين بالتديّن، وهم أصحاب سوابق وخلفيات اجتماعية مُشينة.
المهم، أن القانون العام الذي حكم زعزعة السلطة المركزية، وصعود “الدواعش”، بكل خصوصياتهم الأيديولوجية، وخلفياتهم الاجتماعية، في تلك البلاد، يصدق في، وعلى، كل مكان آخر. أما كيف يتجلى ذلك في مكان آخر، فالشيطان، كما تقول الحكمة الشائعة، في التفاصيل.
khaderhas1@hotmail.com