يخفي تكرار تعبير “سحب السلاح غير الشرعي في لبنان”، المتداول في سجالات ووسائل إعلام، جهلاً لدى البعض، وتسخيفًا لدى أفواج أيديولوجية، للواقع اللبناني ولمفهوم الدولة بالذات.
1. دولتان في لبنان: الواقع اللبناني، بخاصة منذ اتفاقية قاهرة متجدّدة في 6/2/2006، هو حالة تقسيمية مستحيلة في دولتين: دولة رسمية رمزية، ودولة رديفة. ليس لبنان اليوم دولة في مجمل وظائفها السيادية. الدولة الرديفة لا تمتلك مجرد سلاح غير شرعي، لديها جيش نظامي، وأسلحة متطوّرة، وهي ذات ارتباط بدبلوماسية إقليمية نقيضًا لمقدمة الدستور اللبناني: “لبنان عربي الهوية والانتماء”. إنه واقع تقسيمي مستحيل في دولتين.
لا تنطبق على الدولة الرديفة في لبنان، كما ربما في مراحل سابقة، توصيف المقاومة ولا حق الدفاع، حسب المعايير الدولية. فقدت القوة المسلّحة صفة المقاومة الوطنية وشرعيتها وهي تخفي واقعًا تقسيميًا لبنانيًا مستحيلًا بتعابير تبسيطية واجترارية وتكاذب وتذاكٍ وتموضع.
طوال الحروب المتعددة الجنسيات في لبنان في السنوات 1975-1990 حافظت كل الميليشيات، بعقلانية وواقعية براغماتية، على الدولة وعلى التضامن الوزاري ولم تسع إلى مأسسة التعطيل وتعليق الدستور. بعد إقرار ميثاق الطائف برزت الضرورة الكيانية البنيوية لدى الرئيس الياس الهراوي لانضمام حركة تمرد إلى وحدانية الدولة. سعى بجهد لا مثيل له إلى التفاوض واضطر مرغمًا للجوء إلى القوة العسكرية. هذه هي الجدلية العالمية في أنتروبولوجيا القانون والتاريخ لنشوء الدول. حصل ذلك في أول أيلول 1920 في إعلان دولة لبنان الكبير، ثم في الميثاق الوطني سنة 1943 وهذا يحصل الآن في واقع سوريا حيث يتوجب، في سبيل وحدانية الدولة، انضمام كل الأطراف والفصائل إلى الدولة المركزية ووظائفها الأربع المسماة ملكية rex, regis, roi: جيش واحد لا جيشان، ودبلوماسية واحدة لا دبلوماسيتان، وإدارة المال العام من خلال فرض الضرائب وجبايتها، وإدارة السياسات العامة. عندما عرضت نشوء الدول عالميًا وفي علم أنتروبولوجيا القانون والتاريخ أجابني أحد المؤرخين المعروفين: هذا رأي! يدل ذلك على مدى جهل إدراك الدولة في ذهنية سياسية لبنانية!
2. لا إصلاحات بدون الدولة أولًا: خلال لقاء جمع عددًا من الاخصائيين تساءل أحدهم: ولماذا لا نباشر بالإصلاحات؟ يعبّر ذلك عن تجاهل وغياب إدراك الدولة في ذهنية لبنانية سائدة. إن الدولة الرديفة لا تختزل بامتلاك “سلاح غير شرعي”. إن الدولة الرديفة مرتبطة بشبكة زبائنية وقدرات داخل الإدارة وتعطيل لآليات القرار.
في كل سنوات الحروب المتعددة الجنسيات في لبنان في السنوات 1975-1990 استمرت الدولة المركزية بفضل عقلانية وواقعية كل الميليشيات وقوى خارجية داعمة أو معارضة. أما حركة التمرد في قصر بعبدا لدى إقرار ميثاق الطائف فلم تكن إطلاقًا دولة رديفة ولا جيشًا رديفًا، ولم تكن تابعة في تسلّحها ودبلوماسيتها لدولة إقليمية. كانت حركة رفض معلنة، تفتقر إلى الواقعية الدبلوماسية والعقلانية والحرص على المصلحة العامة، لكنها لم تكن دولة رديفة موازية تقسيمية.
يمكن جزئيًا مقارنة حالة التمرد بإقرار اتفاق 27 تشرين الثاني 2024 حيث طلب وزراء الدولة الرديفة – في وضع عسكري كارثي – وضع ملاحظات على الاتفاق. كان جواب الرئيس نجيب ميقاتي: “الاتفاق كما هو، وبالإجماع، فإما الموافقة عليه أو إقراره، وإما رفضه”. ثم بدأ، من جديد، التلاعب والتذاكي والمخادعة والمناورة والتكاذب والتموضع على الطريقة اللبنانية في شؤون السيادة مع تسخيف قضية الدولة. ورد في كتاب للجامعة العربية: “الملكية الحصرية للسلاح الثقيل هو من عناصر السيادة” (جامعة الدول العربية: ميثاقها وأهدافها وإنجازاتها، جامعة الدول العربية، 1963، 40 ص).
منظّرو الدولة الرديفة ليسوا وحدهم مسؤولين عن غياب مثاقفة الدولة في لبنان، بل كل الذين لم يتعلموا من الاختبار اللبناني وكل المغامرين والمقامرين والمخادعين والمتموضعين. إنهم يمارسون التذاكي والتموضع والتكاذب حسب نمطية ذهنية لبنانية تعود جذورها إلى علم النفس التاريخي والعيادي وهي تتطلب معالجة في الثقافة والتربية.
وردت تكرارًا المقولة التالية لدى الدولة الرديفة: “عندما تصبح الدولة قوية نسلم سلاحنا”! وتتكرر المقولة بشكل طبيعي لدى قانونيين ومثقفين بدون خبرة وأخصائيين! هذه المقولة هي بالذات تعبير عن إدراك الدولة وشرعيتها وكأنها شقة مفروشة مع مفاتيحها! إن الدولة الشقة المفروشة مع مفاتيحها هي دولة من صنع الآخرين ودولة محتلة! الدولة قوية بدعم القوى الوطنية السياسية لها ودعم الناس لها. هذا مفهوم الشرعية légitimité التي تتميّز عن القانونية، أي قبول الناس بسلطة الحاكم ودعمهم وليس إذعانهم. يقول الإمام موسى الصدر في 30/7/1978: “لا حل في لبنان إلا بإقامة الشرعية ولا شرعية إلا بتذويب الدويلات أيًا كانت صيغتها وشكلها وفعلها”. إن توصيف الواقع لدى جهة وجهات طائفية هو خيانة وتقسيم مستحيل واستمرار في الخداع والمخادعة.
لا وجود للدولة في ذاتها in se في الإدراك اللبناني! يرد تعبير دولة لدى لبنانيين في أوصافها: دولة القانون، دولة مدنية، دولة لاطائفية، دولة لامركزية… تتعلّق هذه الأوصاف بالنظام السياسي régime الذي تتنوّع توصيفاته. ويتعلم طلاب في كليات قانون – ولا نقول حقوق – أن الدولة هي شعب وأرض ومؤسسات. إنها مكوّنات الوطن والأمة. أما الدولة في ذاتها in se فهي السلطة المركزية التي تحتكر حق اللجوء إلى الإكراه. لدى الزعيم المحلي مساحة جغرافية وشعب من الأزلام ومؤسسات لاستتباع الناس!
إن استعادة الدولة لصالح الجميع، وبدون عدائية وسجال من الماضي، هو أولوية لاقفال لبنان الساحة وإثارة الثقة بالمستقبل. تتلطى الدولة الرديفة التي تحكم وتتحكّم، خلف ورقة توت، الدولة الرسمية الرمزية وتطلق شعارات شعبوية وديماغوجية. ويتم نقد الطبقة السياسية والنظام والدعوة إلى “نهوض” الدولة في حين أن المعضلة ليست في نهوض الدولة بل في استعادتها أساسًا! ضد من يتوجه لبنانيون في التذمّر والاضرابات والتشكي والهروب إلى قضايا مهمة، ولكن جانبية ورديفة، بشأن المصارف والطرقات والمعاملات والإصلاح الاقتصادي واللامركزية والفدرلة…؟
بعد أن عرض أحد المؤرخين المخاطر التي تهدّد لبنان في هويته وديموغرافيته واقتصاده وكثافة اللاجئين… قلت له: من يتولى مواجهة المخاطر؟ كرّر تعداده للمخاطر على اعتبار أنني غير مُددرك لها وكأن مواجهة المخاطر يتم من خلال نضال ومعارضة وتظاهرات وبيانات… بدون دولة!
