صورة المقال: أمين الربحاني بالكوفية العربية مع الملك عبدالعزيز في الرياض في عام 1922
يصادف هذا العام مرور قرن ونصف على ميلاد علم من أعلام العرب النجباء، ممن تبحر في طائفة واسعة من العلوم والاهتمامات في زمن مبكر، فبرز في ميادين الترحال والتأريخ والفلسفة والترجمة والأدب والرواية والشعر والنقد والرسم والصحافة والسياسة، الأمر الذي جعل الكثيرين يصفونه بالرجل السابق لأوانه، وكبير أدباء عصر النهضة العربية، ورائد حركة التفاعل بين الشرق والغرب. بل ذهب الفيلسوف المصري د. زكي نجيب محمود إلى القول بأنه يمثل للعرب ما كان طاغور يمثله للهند وروسو لفرنسا وأيمرسون للولايات المتحدة وبرنارد شو لبريطانيا.
إنه المفكر والأديب والروائي والمؤرخ والرحالة والمصلح والرسام أمين فارس أنطوان يوسف بن المطران الماروني باسيل عبدالأحد سعادة البجاني نسبة إلى بلدة “بجة” في جبيل بلبنان، والذي اخترنا الحديث المفصل عنه لأنه أحد الرواد العرب الأوائل الذين كتبوا عن مظاهر الحياة في أقطار شبه الجزيرة العربية وأحداثها التاريخية وسير حكامها وخصائصها الطبيعية والديموغرافية وتقسيماتها الجغرافية وعادات شعوبها.
اشتهر الرجل باسم “أمين الريحاني”. ويقال أن لقب الريحاني التصق باسم عائلته، بدلا من بجاني، بسبب أشجار الريحان التي كانت تحيط بمنزل العائلة في المتن التي انتقلت الأخيرة إليها في منتصف القرن 19.
ولد أمين في بلدة”الفريكة”، التي قال عنها “وادي الفريكة مهيبٌ وجميلٌ غير أنّ هَيبته أكثرُ مِن جمالِه، وهو عميق ملتوٍ يَنحدِر مِن قرية صغيرة لِيغسِلَ رجليْه في نهر الكَلب”، ولذلك أطلق عليه إسم فيلسوف الفريكة. والفريكة هي من بلدات منطقة المتن الشمالي في جبل لبنان. وكان ميلاده في 1876، لأب من “الشاوية” كان يعمل في تجارة الحرير هو فارس أنطوان الريحاني، وأم من “القرنة الحمراء” هي أنيسة جفال طعمة. نشأ أمين وسط خمس من اخوته الأصغر سنا هم: سعدي، أسعد، يوسف، أدال، ألبرت، وتميز عنهم في صغره بالشقاوة المفرطة والتمرد على أوامر والديه وعدم التقيد بالصلوات الكنسية. وقد سـُجل عن أقرب أشقائه إليه وهو ألبرت قوله أن أمين نادرا ما كان يعود إلى المنزل دون عراك أو تلاسن مع أقرانه من أطفال القرية.
في تلك الأيام لم تكن في قريته مدارس نظامية، فكان أقصى المتوفر هو كتـّاب يتخذ من ظلال الأشجار مكانا لتعليم مجموعة من الصبية والبنات. وفي هذا السياق قال الريحاني (طبقا للموسوعة الحرة) انه درس كراسة الابجدية والمزمور الأول من مزامير داوود على يد معلم القرية “شدياق متى” تحت شجرة من أشجار الجوز أمام كنيسة مار مارون المجاورة لمنزله شتاء، وأنه في الخريف والصيف كان ينتقل إلى مدرسة “نعوم مكرزل” تحت شجرة زيتون هرمة ليتلقى دروسا في العربية والفرنسية والحساب والجغرافيا.
وتمر الأيام ويكبر أمين وتكبر معه أحلامه إلى أن بلغ الثانية عشرة من العمر في سنة 1888، التي مثلت منعطفا هاما في حياته. ففي صيف 1888 سافر مع عمه عبده الريحاني ومعلمه نعوم مكرزل إلى نيويورك. وبعد عام لحق بهم والده فارس. وعلى حين واصل الأب والعم العمل في التجارة بحي مانهاتن، انجذب أمين للتمثيل فالتحق بفرقة تمثيل أمريكية وراح يطوف معها مختلف الولايات. وبعد أن أغلقت تلك الفرقة مسرحها في 1897 قرر أن يلتحق بمعهد الحقوق في جامعة نيويورك، لكنه لم ينهِ فيها دراسته لأنه بعد عام واحد ساءت صحته، فأشار عليه الطبيب بالرجوع إلى لبنان. وبالفعل عاد أمين إلى لبنان في صيف 1889 حيث عمل مدرسا للانجليزية في مدرسة مار يوسف بقرنة شهوان، وفي الوقت نفسه راح يحسّن لغته العربية حتى غدا قادرا على كتابة المقالات المهاجمة للدولة العثمانية من خلال جريدة “الهدى”. وفي هذه الفترة من حياته قرأ الكثير من الشعر العربي، ولاسيما شعر أبي العلاء المعري الذي تأثر كثيرا بفلسفته حول الوجود والخلق والنفس، بدليل أنه سارع إلى ترجمة كتاب “اللزوميات” للمعري إلى الانجليزية بطريقة محكمة لفتت الانتباه ولاقت الاستحسان من قبل رواد نادي “الثريا” الأدبي الامريكي بنيويورك الذين احتفوا به في حفل خطابي كبير، ووضعوا تاجا على رأسه، وأشادوا به بأفخم العبارات.
غير أن إقامته في بلده الأم لم يطل. إذ غادره بعد عام عائدا إلى نيويورك لتتكرر بعد ذلك رحلاته جيئة وذهابا ما بين بلاد الشام والولايات المتحدة حتى 1934 حينما ابعدته سلطات الانتداب الفرنسي عن لبنان بسبب مطالبته باستقلال وطنه الأم وتحريضه اللبنانيين ضد الفرنسيين.
ويمكن القول أن ما حظي به من تكريم بعد إقدامه على ترجمة “اللزوميات”، شجعه على مواصلة التأليف والإصدار باللغتين العربية والانجليزية، فانفتحت أمامه أبواب الشهرة والمجد وغدا إسمه مدرجا ضمن قائمة مشاهير الكتاب في الولايات المتحدة وكندا وانجلترا، بل وفتحت له هذه الشهرة فرصة الالتقاء بالرئيس الامريكي الـ 31 هربرت هوفر ومناقشة العلاقات العربية ــ الأمريكية، وفرصة الاجتماع بأول رئيس حكومة بريطانية من حزب العمال (سير رامزي ماكدونالد).
فقبل ظهور ترجمته لـ”اللزوميات” في 1903 لم يكن قد أصدر سوى كتاب واحد في 1902 تحت عنوان “موجز تاريخ الثورة الفرنسية” كنتيجة لتأثره بمباديء هذه الثورة في الحرية والعدالة والمساواة، لكن بعد ذلك أخرجت له المطابع المؤلفات التالية: المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية، المكاري والكاهن، ديوان”المر واللبان” بالانجليزية،الجزئين الأول والثاني من “الريحانيات”، ديوان “هتاف الأودية”، رواية “خالد” بالانجليزية، رواية “زنبقة الغور”، رواية “جيهان” بالانجليزية، تحدر البلشفية، ديوان “انشودة المتصوفين”، الجزئين الثالث والرابع من “الريحانيات”، ملوك العرب، تاريخ نجد وملحقاته، النكبات، حول الشواطيء العربية والقمم العربية والصحراء، أنتم الشعراء، فيصل الأول، وفاء الزمان، قلب العراق.
وبعد وفاته صدرت له كتب عديدة كانت معدة للنشر منها: قلب لبنان، القوميات، سجل التوبة، المغرب الأقصى، نور الاندلس، أدب وفن، وجوه شرقية وغربية، شذرات من عهد الصبا، قصتي مع مي، وصيتي. وبطبيعة الحال فإن هذه الغزارة في الإصدارات المتنوعة والمتتالية كانت نتيجة شغفه بالقراءة والإطلاع، ثم حبه للسفر والتنقل من مكان إلى آخر مع تسجيل الانطباعات والملاحظات، وإجادته للغات العربية والانجليزية والفرنسية وبالتالي إطلاعه على نتاج هذه الثقافات الثلاث وتأثره برموزها الأدبية والسياسية مثل المعري وفولتير وهيغو وشكسبير وجورج واشنطون وابراهام لينكولن ودارون.
تزوج الريحاني في 1916 دون أن ينجب من زميلته الرسامة الأمريكية “بيرتا كاس Bertha Case ” التي كانت تعرض أعمالها الفنية في فرنسا وإيطاليا قبل وفاتها بنيويورك في 1970 عن عمر ناهز 91 عاما.
ويمكن اعتبار 1922 عاما مفصليا آخر في حياة الريحاني لأنه العام الذي بدأ فيه رحلته الأولى إلى بلدان شبه الجزيرة العربية، والتي قابل فيها قادتها مثل: شريف مكة الحسين بن علي، وسلطان نجد وملحقاتها عبدالعزيز آل سعود، وإمام اليمن يحيى حميد الدين، وأمير الكويت أحمد الجابر الصباح، وشيخ البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، وملك العراق فيصل الأول، وأمير المحمرة الشيخ خزعل الكعبي، والسيد محمد بن علي الإدريسي سيد تهامة، إضافة إلى سلاطين ومشائخ لحج والمحميات.
في هذه الرحلة، التي جاءت بعد رحلاته إلى فلسطين ومصر والعراق، وقبل رحلاته إلى الأندلس والمغرب العربي وانجلترا وفرنسا، تغير الكثير من قناعاته عن العرب وتاريخهم وأحلامهم وغيرها من الأمور التي لم يكن له علم بها. كما أتاحت له هذه الرحلة الارتباط بـ”علاقة صداقة حقيقية يشترك فيها العقل والقلب والضمير” (بحسب مجلة المجلة السعودية ــ عدد 30/9/2013) مع الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود امتدت على مدى عقدين من الزمن إبتداء من إبريل 1922 إلى مارس 1939.
نجد تجليات هذه العلاقة الفريدة بين ملك وأديب في الرسائل المتبادلة بينهما واللغة المستخدمة فيها، علما بأن هذه الرسائل جـُمعت لاحقا في كتاب بعنوان”الملك عبدالعزيز آل سعود وأمين الريحاني:الرسائل المتبادلة”. حيث دأب الملك على مخاطبة الريحاني بالصديق المخلص الكريم المكرم، قبل أن يقول عنه “أجد في المصلح القومي العظيم، صديقي أمين الريحاني اهتمامًا حقيقيًّا بالعرب وبوحدتهم، وأنا معجب إلى أبعد حد بأدبه وعلمه ووطنيته الصادقة”.
أولى رسالة الريحاني الموجهة للملك كانت حول السماح له بزيارته فكان رد الملك هو الآتي: “كيف نرد من يبغي زيارتنا وهو من صميم العرب؟ قالوا إنك أمريكي جئت تنشر الدين المسيحي في البلاد العربية. وقالوا إنك تمثل بعض الشركات، وجئت تبغي الامتيازات، وقالوا إنك قادم من الحجاز وإنك شريفي تسعى لتحقيق دعوة الشريف. وقالوا غير ذلك. فقلنا إن كان في الرجل ما يضر فنحن نعرف كيف نتقيه، وإذا كان فيه ما ينفع فنحن نعرف أيضًا كيف ننتفع، ونحن أعلم يا حضرة الأستاذ بمهمتك.. بارك الله فيك”.
كما نجد تجليات العلاقة الحميمة بين الرجلين في الأدوار التي كلف بها الملك صديقه الريحاني. فحينما التقى الرجل بالملك لأول مرة في صحراء الهفوف أثاء الاستعداد لعقد مؤتمر العقير في 1922، طلب منه الملك أن يكون مستشاره في عقد معاهدة بينه وبين الوفد العراقي برئاسة المندوب السامي البريطاني في العراق “سير برسي كوكس” لترسيم الحدود بين نجد والعراق والكويت، فقبل الريحاني وأدى المهمة على أكمل وجهه، واضعا المعاهدة المطلوبة باللغتين العربية والانجليزية. وفي الحرب الحجازية ــ النجدية ما بين 1924 و1925 وافق الملك عبدالعزيز وشريف مكة الحسين بن علي على قيام الريحاني بدور الوسيط بينهما، وكاد أن يتحقق الصلح لولا تدخلات سياسية مستجدة. إلى ذلك عهد الملك عبدالعزيز وحاكم الكويت الشيخ أحمد الجابر الصباح إلى الريحاني بمهمة الاتصال بشركات النفط الاجنبية لصالح بلديهما، فقام الريحاني في 1924 بالإلتقاء بالجيولوجي النيوزيلندي الميجور “فرانك هولمز”(رئيس الشركة الشرقية والنقابة العامة المحدودة للنفط) لهذا الغرض، بل أن الأخير ذهب إليه في الفريكة، مثلما ذهب إليه في عام 1927 عدد من شيوخ البحرين لبحث المسائل النفطية.
يقول عالم الميثولوجيا اللبناني الدكتور عصام الحوراني في مقال له في “نشرة أفق” الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي في نوفمبر 2016 أن الريحاني كان ينطلق في كل هذه الجهود والاسهامات من منطلق”إيمانه بتحقيق الوحدة العربية”، و”رفع الضيم عن شرق له في أعماقه مودة خالصة” والمزاوجة بين “شرق هو وطن الروح والايمان والاديان، وغرب هو وطن العقل والعلم والنشاط والحداثة والتقدم“. ويضيف أنه كان “صاحب رسالة انسانية تخص العالم كله، وبخاصة شعبه العربي”.
وهذا صحيح ويمكن استنتاجه من الوصية التي كتبها في 1931. إذ قال:” إنّ الوحدة العربيّة المؤسَّسة على القوميّة لا على الدِّين هي وحدة مُقدّسة فأوصيكم بها. واعلموا أنّ لا خلاصَ للأقليّات مِن ربقة الأجانب، أو في الأقلّ مِن التدخل الأجنبيّ، إلاّ باتّحادهم مع العرب، بل بامتزاجهم بالأكثريّات امتزاجاً عقليّاً أدبيّاً روحيّاً، فتُصبح البلاد ولا أكثريّات ولا أقليّات، واعلموا كذلك أنْ لا مستقبل مجيداً للعرب ولا وحدة عزيزة شاملة بغير الحُكم المدنيّ الديمقراطيّ القائم على العدل والمساواة بالحقوق والواجبات،واعلموا أخيراً وتأكّدوا أنّ في الدّولة العربيّة الكبرى ستضمحلّ العصبيّات الدينيّة والطائفيّة كلّها، أو ستنحصر في دوائرها الخاصّة بها ولا تتعدّاها، وسيقوم مقامها في الوطن عصبيّة الجنس واللّغة والثقافة، وقد ارتبطت كلّها بالمثل الإنسانيّ الأعلى، وبالمصلحة المشترَكة المتبادلة بين الأهالي جميعاً على السّواء”.
وعليه فإن الريحاني كان داعيا من دعاة الوحدة العربية والاصلاح ونبذ الفرقة والتخلف واللحاق بالعالم الحديث، ولم يكن جاسوسا يعمل لصالح وكالة المخابرات المركزية الامريكية مثلما روجت مجلة “الهلال” المصرية التي زعمت أن لديها وثائق تؤكد ذلك في فبراير 2006 فلما طُولبت بنشرها عجزت، فكسب إبن شقيق الريحاني (أمين ألبرت الريحاني) دعوته القضائية ضد المجلة وتمت مصادرة أعدادها من الأسواق اللبنانية.
من أهم ما أثمرت عنه جولته في أقطار شبه الجزيرة العربية، عدا تعرفه على حكامها وظروفها عن كثب، هو كتابه الخالد “ملوك العرب” الصادر في جزئين سنة 1924 والذي قال في مقدمته: “كنت في الثانية عشرة من عمري عندما سافرت للمرة الأولى إلى الولايات المتحدة، فلم أكن أعرف غير اليسير من اللغتين العربية والفرنسية، وما كان في ذهني من العرب وأخبارهم غير ما كانت تُسمعه الأمهات في لبنان صغار”هس. هس، جا البدوي”! والبدوي والأعرابي واحد إذا رامت الأم ــ “بعبعاً” تخوف به أولادها ــ . هجرتُ وطني وفي صدري الخوف ممن أتكلم لغتهم، والبغض لمن في عروقي شيء من دمهم. والبغض والخوف توأما الجهل”.
هذا الكتاب وُصف بالسفر النفيس، ومفخرة العبقرية العربية، وأعيدت طباعته 12 مرة وترجم إلى 16 لغة ونشر حوله 127 مقالا بأقلام كتاب عرب ومستشرقين روس وفرنسيين وألمان وانجليز، واعتمد مرجعا لطلاب العلوم السياسية والدراسات الشرق أوسطية في العديد من الجامعات شرقا وغربا.
في الكتاب قطع نثرية جميلة خاصة بوصف بعض المدن التي حل فيها المؤلف. ولأن المجال لا يتسع للإستطراد فقد اخترنا لكم ما كتبه عن مدينتين هما “عنيزة” و”المنامة“.
فقد زار”عنيزة” في 1922 ضمن رحلته إلى نجد، واستضافه فيها أميرها عبدالعزيز بن عبدالله السليم، والوجيه عبدالله خالد السليم، والوجيه عبدالله بن محمد البسام، وسكن بها في القصر المعد لإقامة الملك عبدالعزيز. وصف عنيزة بأنها: “مليكة القصيم، حصن الحرية، محط رجال أبناء الامصار، قطب الذوق والأدب، باريس نجد. وهي أجمل من باريس إذا أشرفت عليها من الصفرا لأن ليس في باريس نخيل وليس لباريس منطقة من ذهب النفوذ. بل هي أجمل من باريس حين اشرافك عليها لأنها صغيرة وديعة خلابة بألوانها، كأنها صورة صورها مانـِه (يقصد المصور الفرنسي “كلود مانيه”) لقصة من قصص ألف ليلة وليلة، وكأنها لؤلؤة في صحن من الذهب مطوق باللازورد”.
أما “المنامة” فقال واصفا خطواته الأولى فيها: “نزلنا من الباخرة بعيدين عن الجزيرة وسرنا في شراع فوق منازل اللؤلؤ الراقد تحت الأمواج، والبحر ساعتئذ رهوٌ، والهواء عليل، وشمس الصباح تتهادى على الإثنين، فبدتْ المنامة خلالها مشرقة بيضاء كأنها أبراج شيدت من اللؤلؤ، بل هي أميرة اللآليء وقد صعدتْ من أماكن الغوص واستوتْ على عرش الخليج. وكان الشراع يهمس سلاما كلما مرّ بشراع آخر، وكلها مثل أجنحة الحمام تميس وتتهادى على بساط من الزمرد، كأنها تتلو القصائد في مديح ربة الدرر ودرة البحّــار”.
ويعترف الريحاني بأنه أخطأ في حق البحرين حينما ظنها – قبل أن يزورها – أنها “جزيرة صغيرة حقيرة يأوى إليها الصيادون” وأن “شيوخها من البدو الذين يسكنون الخيام”. ويقول في هذا السياق أنه ما أخطأ الظن مرة ببلاد عربية مثل خطأه بالبحرين.
ثم يتحدث بإسهاب عن بعض المظاهر العمرانية والتجارية والخدمية والاجتماعية التي وقعت عليها عيناه في البحرين، وهو ما جعله غير مصدق بأنه على مقربة من بوادي نجد وصحاري شبه الجزيرة العربية القاحلة توجد أرض بها عمران، وقصور، وبيوتات تجارية، ونظام، وإدارات، ودواوين، وكتبة، ومحاسبين، ومراسلات، وبريد، ومراكب شراعية تشق المياه الزرقاء، وشواطيء، وأسواق، ومقاهي، وحركة تجارية، ومخازن تعج بمختلف صنوف البضائع من مأكولات ومشروبات وملبوسات وأدوات للزينة والترف من تلك التي لا تتوفر إلا “في المدن الكبيرة مثل بمباي والقاهرة”.
وصفه توفيق سعيد الرافعي في الصفحة 13 من كتابه “أمين الريحاني: فلسفة الشرق في بلاد الغرب” قائلا: “كاتب رشيق العبارة، متين التركيب، يطرب بأسلوبه كما يسكر بآرائه الفلسفية، تعرب أشعاره عن عقلية سامية، وروح رفيعة، ورجحان قوة الاستقراء، ودقة شرح أسرار الحياة وما وراء الحياة، أفرنجي الأسلوب، عصري الأفكار، راقي الخيال والوصف والابتكار، يبتكر بكتاباته وبلاغة تعبيره آراء وفلسفة اجتماعية خالعاً ثوب التقليد والجاهلية القديم، ينظم الشعر الخيالي البليغ المؤثر باللغة الإنكليزية والعربية”.
أما هو فقد قال عن نفسه في الصفحة 169 من كتابه “الريحانيات”: “لا المجد والشهرة أمنيتي القصوى، ولا الجاه والثروة، ولا السيادة والعظمة. أمنيتي الجوهرية الأولى هي أن أكون بسيطا في أعمالي، صادقاً في أقوالي، مستقيماً في مبادئي وآرائي، فطرياً في تصرفي وسلوكي، حراً فيما أحب وما أكره. وبكلمة أخرى أود أن أكون دائماً نظيف العقل والقلب والجسم، بعيداً عن التصلف والزخرف والعجب والمصانعة، بعيداً عن الجبن والخوف والتذبذب، بعيداً عن الخجل الذي يذل النفس ويميت الحقيقة، بعيداً عن الكذب والمداهنة والرياء”.
في 13 سبتمبر 1940 توفي الريحاني في مستشفى ببلدة الفريكة بُعيد تعرضه لحادث سقوط من دراجة اعتاد أن يقودها على الطرقات الجبلية، أدى إلى كسور في جمجمته. وهكذا رحل رجل شغل الدنيا شرقا وغربا بمؤلفاته وأفكاره ورحلاته وعلاقاته ومواهبه المتعددة، كما شغل أبناء المهجر بمخاصمته للأديب المهجري اللبناني جبران خليل جبران الذي سبقه الريحاني لجهة البروز والتأليف بالانجليزية وكتابة الشعر المتحرر من الأوزان والقوافي، لكن خصومته له والامتناع عن المشاركة في أنشطة “الرابطة القلمية” لم يمنعه من رثاء جبران حينما توفي.
نال الرجل أوسمة كثيرة، وتم تكريمه في مناسبات عديدة حضرها علية القوم كان آخرها حفلا أقامته السفارة السعودية ببيروت في نوفمبر 2016. غير أن التخليد الأكبر له جاء من خلال إقامة متحف لمتعلقاته وآثاره وصوره في مسقط رأسه على يد شقيقه الأصغر ألبرت الريحاني، علما بأن هذا المتحف أفتتح في 1953، لكن تم تجديده والإضافة إليه في 1990.
aaaelmadani@gmail.com