إنّ هؤلاء المتخبّطين في الأيديولوجيات العابرة للأقاليم العربية يتجاهلون طبيعة مجتمعاتهم التي انبنت على عقد إجتماعي متجذّر في حضارتهم…
هل يجب إعادة الاعتبار إلى الجاهليّة العربية التعدّدية؟
إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق. ولمّا كان بنو البشر «قد ولدتهم أمّهاتهم أحرارًا» فإنّهم يجنحون إلى الحريّة بطبيعتهم، وقد تذهب هذه الحرية إلى البحث عن وسيلة للانضواء في «أحزاب»، وأيديولوجيّات دينية، طائفية أو سياسية. وهكذا فإنّ الحريّات البشرية التي انطبع عليها بنو البشر هي التي تولّد بالقوّة كلّ الصّراعات الفكرية، وقد تنقلها في مرحلة معيّنة من القوّة إلى الفعل. إلى هنا لا بأس في ذلك، بل على العكس تمامًا. إذ إنّ هذه الصراعات، في حال بقائها في وضعها الطاهر، هي ما يدفع المجتمعات وينقلها إلى مراحل متقدّمة في مسار تطوّرها.
لكي نضع حدًّا للتخبّطات التي وجدت فيها النخب العربية نفسها على خلفية من يجري من أحداث في العالم العربي، نجد لزامًا علينا أن نضع بعض الخطوط العريضة لتلمّس طريقنا في هذه الظلمة المخيمة والتي ولا نرى أنّها منقشعة في المستقبل المنظور.
لكن، وقبل ذلك حريّ بنا أن نعود إلى جذور هذا المأزق العربي.
لقد أضحى العالم العربي في وضع يمكن فيه توصيفه كحالة وجودية لا تمتّ إلى هذا العصر الذي انفرزت فيه شعوب العالم إلى كيانات مدنيّة تسمّى دولاً وطنيّة. إنّ ما يميّز الدولة الوطنية العصرية هو ذلك الوفاق الاجتماعي على أعراف سياسية تنضوي تحتها جمهرة المواطنين، بعيدًا عن خلفيّاتهم الإثنية، الدينية والطائفية.
بالنظر إلى أحوال عالمنا العربي في القرن المنصرم، وعلى وجه الخصوص منذ خروجه من هيمنة السلطنة العثمانية وعبوره لاحقًا إلى مرحلة «الاستقلالات الوطنيّة»، فإنّنا نلاحظ تيّارين قد تقاذفاه في خضم الصراعات العالمية هما التيّار العروبي والتيّار الإسلامي. إنّ هذين التيّارين في جوهرهما عابران للحدود الـ«وطنية» للكيانات المستجدّة. ولذلك فإنّ من يحمل على عاتقه شيئًا من هذه التوجهات أو يأخذ بأحد هذين التيّارين يجد نفسه في مأزق وجودي. فإنْ أخذ بالعروبة أو بالإسلام فلا معنى للكيان الوطني الذي يعيش في كنفه فلا حاجة له به. إذ إنّه يعبر بهويّته من حدود الإقليم الضيّق إلى ساحة أرحب. هكذا، وصل مرشد الإخوان المسلمين إلى القول «طز في مصر»، وهكذا يصل العروبيّون إلى القول: طزّ في هذا البلد العربيّ أو ذاك.
غير أنّ الرياح العربية، ومن ورائها الإسلامية، تجري بما لا تشتهيه هذه الأيديلوجيّات العابرة للأقاليم. ولهذا، ورغم مرور قرن من الزمان على هذه التحوّلات، نرى أنّ التجزئات العربية إلى كيانات هي التي صمدت. فلا أدعياء العروبة ولا أدعياء الإسلام أفلحوا في إلغاء هذه الحدود الفاصلة بين كياناتهم. فماذا يعني كلّ ذلك؟
إنّ هؤلاء المتخبّطين في الأيديولوجيات العابرة للأقاليم العربية يتجاهلون طبيعة مجتمعاتهم التي انبنت على عقد إجتماعي متجذّر في حضارتهم، وما لم يتمّ الالتفات إلى هذه الجذور الضاربة في القدم، فلن يتمّ تبصّر السبيل للخروج من هذه المآزق.
وإذا ما استثينا الحال المصرية، فإنّ الحديث عن وطنيّات جامعة لجمهرة المواطنين، في سياقات العالم العربي، لا يستند إلى أيّ أساس. فقط في الحال المصرية يمكننا الحديث عن وطنية مصرية. فعلى الرغم مما يعتري الحال المصرية من شوائب متعلّقة بحال الفرقة بين الأقباط والمسلمين يمكن الحديث عن وطنية مصرية بعيدة عن القبليّة. أمّا سائر العالم العربي فلم يخرج بعد من الطور القبلي والطائفي. ولهذا نرى أنّ حالة التوريث للزعامات السياسية والاجتماعية هي الأصل في هذا العالم، ولا معنى لكون الكيانات جمهورية أو ما شبه ذلك. حتّى كلّ الجمهرات التي يُطلق عليه مصطلح «أحزاب»، لا معنى لها، إذ أنّ التوريث فيها هو الأصل.
هكذا، يضحي خطاب النخب العربية عن العروبة أو الإسلام سبيلاً للهرب من مواجهة هذه الحقائق في البيت الوطني الصغير، أي في الدول التي رسم حدودها الاستعمار، كما دأبت تلك النخب على القول.
بعد مرور قرن من الزمان، نرى أنّ هذه الكيانات العربية المستجدّة هي التي صمدت أو بالكاد. فهي تتشبّث بكلّ ما أوتيت من قوّة بهذه الحدود الاستعمارية. وإن لم تصمد فهي آيلة إلى التفتّت والزوال والانفراط إلى كيانات طائفية أقلّ اتّساعًا. فهل، والحال هذه، يمكن الحديث عن وطنيّات عربية؟
لهذا، ربّما كان من الأجدى لهذه النخب الانكفاء إلى الداخل بغية إصلاح الحال في رقعة جغرافية ضيّقة. فلا المغربي يستطيع إصلاح حال العراقي، ولا المصري يستطيع إصلاح حال اليمني أو الجزائري، وكلّ هذا، ناهيك عن أحوال العرب المنكوبين في أماكن تواجدهم.
خلاصة القول، لا يمكن لمّ شمل العرب. إنّ السبيل إلى لمّ الشمل يبدأ بالإصلاح الداخلي في كلّ كيان على حدة. ومتى ما تمّ هذا الإصلاح بإجماع المواطنين في كلّ بلد على حدة، تضحي الطريق سالكة إلى الانتقال لمراحل عربية أكثر تطوّرًا. ولكن وحتّى نصل إلى ذلك الأوان، فيمكن اختزال حال العرب الآن بجملة واحدة: كلّ يغنّي على ويلاه.
*