رأيتُ صاحبي. في الجوار بحر. لم أر بحراً، ولكن أعرف أنه في الجوار. صالة واسعة. نلتقي هناك. أراه مع امرأة تبدو أليفة ومألوفة. لا أعرف مَنْ هي. يبدو رائق المزاج. وعلى طريقة من يصنع مؤامرة صغيرة، يقدم لي ضاحكاً علبة من الورق المقوّى. في العلبة تبغ، وورق لف السجائر. وأراني ماشياً مع امرأة، ليست المرأة نفسها، ولكنها تبدو أليفة ومألوفة، أيضاً. أحمل العلبة التي أصبحت ثقيلة، أرفع الغطاء فأرى أسماكاً حيّة.
رأيت صاحبي مرتين. لم يعلق من الأولى شيء في الذاكرة. وعلقت من الثانية أسماك، وروائح بحرية، وبهجة في الصباح، لأنني رأيت صاحبي في المنام. وكما يليق بمنْ لا يسمي شيئاً لم يقرأ عنه، أحاول العثور على المعاني قريبة وبعيدة. الرموز لغة الأحلام، تنوب عن شيء ما، وقد أفلتت من حاجز التفتيش، أي السلطة الرقابية، التي يفرضها العقل الواعي في سياق فهم، وتخييل، وإعادة إنتاج، العلاقة اليومية بين الكائن والكون.
ولكي لا نبتعد كثيراً، لا وظيفة تنبؤية للأحلام. يستعير العقل الباطن مفردات (أشياء أو أفكار أو مشاعر) من وقت قريب، قد يكون المساء، أو اليوم الذي سبق الحلم، ليعيد إنتاجها، ومنتاجها، على طريقته، أي مُرمّزة، وفي كل الأحوال، يقول لنا شيئاً ما عنّا، وعن العالم.
في اليوم الذي سبق حلم التبغ والسمك، تواطأت مخاوف ألا تصمد السجائر حتى المساء، مع براعة الكسول القادر على خلق مليون سبب لإقناع نفسه بعدم الخروج قبل المساء. ولم يكن اليوم نفسه بهيجاً أو مُبهجاً، فقد وقعت فيه ثلاثة أعمال إرهابية في تونس، والكويت، وفرنسا. لماذا يقتل شخص امرأة، لم يرها من قبل، على شاطئ البحر؟ ولماذا يقتل شخص شخصاً يقف إلى جانبه في وقت ومكان الصلاة؟ ولماذا يريد شخص تفجير مصنع للغاز لإحراق مدينة؟
فلنلاحظ أن لا أحد من القتلة يعرف، أو يكره، ضحيته، بصفة شخصية. فقد تصادف أن تنوب الضحية عن رمز، وأن تمثل فكرة، يقتل القاتل الرمز والفكرة في ضحيته، التي شاء الحظ العاثر أن تكون وسيلة إيضاح، لا أكثر. وهذا لا يحدث إلا في زمن الحروب الدينية. في الحرب يقتل الجندي جندياً معادياً لأنه ينفذ الأوامر من ناحية، وتدافع غريزة البقاء لدى الحيوان فيه عن حقه في الحياة، من ناحية ثانية. في حروب الأديان يقتل شخص شخصاً آخر لأسباب مختلفة، ليس فيها تنفيذ الأوامر، ولا غريزة الحيوان في الدفاع عن البقاء في الحياة.
ولنفكر في ماهية التاريخ، وكيف يكتبه المنتصرون. لم يسبق لنصر أن كان نهائياً، ولم يسبق لمنتصر أن كتب تاريخاً، وكان نهائياً. ها نحن، إذاً، لا في زمن “نزع السحر عن العالم” وحسب، بل وفي زمن افتضاح أمر، وفضيحة، العالم، أيضاً.
وهذا مُربك ومُحيّر في عالم العرب والمسلمين، لم يجدوا أنفسهم مكشوفين، وفي العراء، يوماً، كما يحدث الآن: تحت شمس حامية، وضوء ساطع. لن تكون هزيمتهم غير نهائية، إلا إذا اعترفوا بحقيقة أن انتصارهم في ما مضى من التاريخ، كان وجيزاً، وكان فيه، لا عليه، ولم يكن نهائياً. وقتها، يمكن الكلام عن الانتماء إلى، وتذويت، الأزمنة الحديثة.
ولكن أين التبغ والسمك في هذا ومنه؟ شرعتُ، قبل ذلك المساء، في قراءة كتاب مضاوي الرشيد عن تاريخ السعودية (الطبعة الثانية، مطبعة جامعة كمبردج 2010). وكما في كل قراءة، تعلق في الذهن، أو يتوقف القارئ أمام معلومة، أو فكرة معيّنة. وقد استوقفتني مسألة أن المطاوعة النجديين، في زمن إنشاء وتوسّع الدولة السعودية، وبعد الاستيلاء على مكة والمدينة، كانوا يعتدون على المدخنين بالضرب. وثمة مسألة لم تخطر على البال من قبل، فقد فُرضت “الجزية”، في الزمن نفسه، على الشيعة، بعد غزو المنطقة الشرقية، باعتبارهم من غير المسلمين.
في هذا ما يفسر، إلى جانب القلق من تناقص ما تبقى من سجائر، حضور التبغ في المنام. ثمة تأويلات كثيرة للتبغ منها: “البحث عن الهدوء والراحة” وكلاهما من شروط الحد الأدنى للحفاظ على علاقة ودية بالحياة، بعد مشاهدة نشرة أخبار المساء على شاشة فضائية عربية. وبقدر ما يتعلّق الأمر برؤية صديق من الماضي، في المنام، ثمة ما يحيل، هنا، إلى محاولة للوصل مع جانب من الماضي نفسه، علاوة على محاولة لاكتشاف، أو الاعتراف بما يميّز هذا الصديق، وما بقي في العقل الباطن منه.
ولعل في هذا ما يأخذنا إلى رمزية السمكة. فهي رمز قديم، وأبرز دلالاتها: الحياة، والخصوبة، وحسن الحظ، والغموض، أحياناً، لأنها تغوص في مياه عميقة (في أساطير الهنود الحمر). هي إيجابية في كل الأحوال، كانت من رموز المسيحية الأولى، وما لا يعرفه الكثيرون أن المسيحية استعارتها من ثقافات وتقاليد رمزية أقدم سادت فيها ديانة الأم الكبرى. كان ما أصبح سمكة في المسيحية الأولى، رمزاً للخصوبة في ديانة سبقت.
وكانت مشاهد القتل في ذلك المساء سادية، مؤلمة، وثقيلة على القلب، والعقل، والعين. أما العقل الباطن فيلهو على طريقته، ينصب حاجزا هنا، ويضع رقيباً هناك. ومع ذلك، كان دفاعياً ومدافعاً، لم يعاقبك بالكوابيس المُفزعة، بل مثّل للماضي، أو محاولة الوصل مع جانب منه، بالعودة إلى رمز ورمزية الأم الكبرى، أي بالعودة إلى الحياة نفسها. صاحبك محمود كان، وما يزال، حارساً أصيلاً، ونبيلاً، من حرّاس الحياة.
هكذا رأيتُ صاحبي. وفرحت.
khaderhas1@hotmail.com