صبَّ الكاتب والأكاديمي البحريني عبد الله أحمد المدني جهده في تأرخة رجال ونساء الخليج العربي؛ مِن المؤسسين والمتقدمين البارزين في شتى المجالات. كنتُ أتابعه ناشرا في هذه الصحيفة أو تلك، ثم ما كتبه عن الدَّمام وأرامكو، وكيف كانت الحياة، في العقود الخوالي، مقبلة على تشييد المدنية في ذلك المكان.
كتب يُخاطب، مِن دون أن يفصح، الجيل الحالي، الذي أخذته الصَّحوات والإسلام السِّياسي، بعيدًا، عمَّا أسس له أولئك الأولون. أخذته إلى التعصب والتقوقع والخذلان، حتى غدت الموسيقى من الكبائر، ولم يعد مطرب هائل اللحن وعذب الصَّوت كعوض دوخي، في اعتقادهم، إلا سببا لدخول جهنم. بهذه المفاهيم الجديدة ظهرت ورشات تجهيز الانتحاريين للقتل الجماعي، هذه هي رسالة الصَّديق المدني في «النُّخب في الخليج العربي قراءة في سيرها» (2016).
قرأت كتاب المدني وشغفت بما تضمن مِن تاريخ معاصر، خُط بأسلوب رشيق، يجبر على مواصلة القراءة، على الرغم مِن دقة الحرف وتقارب السُّطور. فالكتاب الذي صدر في مجلد واحد بنحو ثمانمائة صفحة، كان يصدر بثلاثة مجلدات، وبطباعة مريحة، لكن ليس بيد صاحبنا حيلة، فالطباعة بحاجة إلى مَن يلتزم الكتاب، لبهاظة التكاليف، فقد تكفل وحده بهذا الجهد، بينما كل ما ورد في الكتاب يخص الدول والمجتمعات، فهو إضافة مهمة لأراشيفها وتاريخها، وما فيها مِن استنهاض الحاضر بنور الماضي القريب.
قرأت في الكتاب قصصا لا تخلو مِن الغرابة والعجب والمفارقة؛ ولولا التوثيق الذي حرص عليه المؤلف، مِن مقابلة أو دورية قديمة أو كتاب، لقلتُ إنها مِن نسج الخيال، أقول ذلك لأنني أعرف عبد الله المدني روائيًا أيضًا، إضافة إلى أنه كاتب سياسي واجتماعي.
أقول من نسج الخيال عندما أقرأ في الكتاب أن سعوديًا مِن أهل القصيم يتقدم في المسرح الهندي، وهو يتقن الإنجليزية والهندية إلى جانب العربية، إنه الفنان إبراهيم بن حمد القاضي، حتى برز مؤسسا للمسرح الهندي، وألف نحو خمسين مسرحية بالإنجليزية، وتسلم عدة جوائز كبرى، مِن بلاد الهند، وواحدة مِنها مِن رئاسة الجمهورية الهندية.
حكى المدني قصة الإماراتي الذي عُد مؤسسًا للصحافة بالشارقة والإمارات كافة، إبراهيم بن محمد بن عبد الله المدفع، هذا الرجل بدأ يكتب الصحيفة بيده، ويعلقها وسط السوق بعد أن ينسخها في عدة نُسخ يوزعها على الأصدقاء، يجمع المعلومات والأخبار ويكتبها فيها، كان ذلك عام 1927. ومعلوم كيف كانت المنطقة في ذلك الوقت؟ والأهمية ليست في الصحيفة المخطوطة، التي كان يعلقها بالسوق، إنما في الفكرة، فهي تعادل اليوم تأسيس إذاعة أو فضائية، كانت عملاً إعلاميًا جبارًا.
وردت سيرة لشاعر البحرين إبراهيم العريض، هذا الرجل الوطني، عاد إلى بلاده البحرين مِن الهند، وكان قد ولد فيها، وهو لا يعرف كلمة عربية واحدة، وإذا به يصبح فارس البيان العربي والقوافي، ببلاده البحرين والمنطقة، شاعرا وناثرا، وصارت كتاباته مصدرًا لكُتاب بالعراق والشَّام، وساهم في نشأة البحرين الجديدة، بفكر معاصر ومواقف تحتاج لها المنطقة اليوم، كيف لا وهو أحد التنويرين أسوة بتنويريي مصر والعراق والشَّام وبلدان المغرب.
كان الجميل في كتاب «نُخب الخليج العربي» أن مؤلفه غطى معظم طبقات المجتمع، ولم يخذله التسامح في طرح الأفكار، والإشادة بمَن قد لا يتفق مع أفكارهم ومواقفهم، فهنا قام بدور المؤرخ الحيادي، الذي تهمه المعلومة قبل الموقف مِن هذا الشَّخص أو ذاك.
تضمن كتابه أهل اليمين وأهل اليسار على السواء، أهل الثورات وأهل الثروات، وكل مَن امتلك فكرًا وممارسة تنويرية، لأن الهدف كان، مثلما أقنعني الكتاب به، إعادة جهود التنويريين، للمساهمة في إزالة ظلام الجماعات التي هيمنت على الشَّباب باسم الدين تحت رايات الإسلام السياسي، على اختلاف المذاهب.
تحدث المدني عن زعيم جبهة التحرر الوطني (اليسار البحريني)، أحمد الذوادي وأعطاه حقه، كرجل مواقف. تحدث عن المطربين، وفي مقدمتهم عوض دوخي وأخوه الملحن والدكتور في الموسيقى يوسف دوخي، كيف تقدم صاحب الصوت الشجي، من منظف في السفن إلى نجم الغناء، حتى تخلى الكثيرون عن سماع أغاني أم كلثوم بصوتها إلى سمعها بصوته. استفاض بسير مغنيات ونساء تبوأنَ مكانة في الطب والتحرر الاجتماعي، تلك المرأة الكويتية التي وقفت ضد (البوشية) والنقاب، وعملت على الأخذ بيد بنات جنسها من المطبخ إلى السياسة، إنها الكويتية فاطمة القناعي.
تحدث عن قصة أول وزير سعودي، وقصة ذلك الرجل الذي تعلق بالحضارة اليابانية وتعلم لغة اليابان وأخذ يحاضر ويجادل بها، والرجل الذي اضطره شغفه في تعلم الإنجليزية للعمل خادمًا عند الأميركان، فحصل على ما يريد مع أنه مِن عائلة غير مجهولة. كانت الهند، قبل ظهور العلاقات الدبلوماسية الحديثة مع دول الخليج، تحفل بوكلاء لحكام المنطقة، ولكلِّ وكيل قصة.
أرى أن يؤخذ هذا التاريخ بنظر الاعتبار، وتتبناه المؤسسات الثقافية بدول الخليج، فقد حزنتُ لصدور الكتاب بهذه الهيئة من الطباعة، مع صعوبة التوزيع، فقد سألت المدني، عن سبب ذلك، قال: هذا ما قدرتُ عليه، بينما المادة التي يحتويها تستحق طباعة تٌسهل قراءته.