المصدر: ترجمة ن.ن
نتذكّر الحالة الشهيرة إنما الواقعية للأميركية “سيبيل” التي شخّصت لديها طبيبتها النفسية، عام 1973، وجود ست عشرة شخصية يمتلك كل منها ذاكرة خاصة بها وذكريات محدّدة لا تتشاركها مع شركائها الآخرين في جسد سيبيل. اليوم نعلم أن قضية”سيبيل”، التي تصدّرت العناوين، كانت ضرباً من الاحتيال، حتى ولو تمكّن الكيان السريري من دخول “الكتيّب التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية” في تلك الحقبة، والذي يشكّل مرجعاً في الاضطرابات النفسية.
أثارت المواقف الأخيرة الصادرة عن كبار المسؤولين اللبنانيين القلق في النفوس، وكأن الدولة اللبنانية، كجسم، تعاني من عوارض مشابهة لعوارض الأميركية سيبيل.
في مرحلة أولى، صرّح رئيس الجمهورية ميشال عون لوسيلة إعلامية مصرية أن الجيش اللبناني غير كافٍ للدفاع عن أرض الوطن ضد العدو الأوحد إسرائيل، وأنه من الضروري تالياً أن تؤدّي المقاومة، أو “حزب الله”، دوراً حاسماً في هذا المجال. أما مشاركة “حزب الله” الناشطة في الحرب التي يشنّها النظام السوري ضد شعبه فلا تدخل في الحسابات.
بعد بضعة أيام، لمناسبة إحياء ذكرى اغتيال رفيق الحريري عام 2005، أعلن نجله رئيس الوزراء سعد الحريري على الملأ أن الجيش اللبناني هو الوحيد المخوّل اللجوء إلى عنف السلاح لحماية الحدود اللبنانية. ولم يأتِ مطلقاً على ذكر “حزب الله” وترسانته.
هل هو تنافر أصوات في أعلى هرم الدولة؟ متلازمة ضياع شخصية الدولة؟ تفكّك فصامي في الإرادة السيادية للدولة؟ لكلٍّ أن يُعطي التفسير الأنسب له.
في مرحلة ثالثة، كان زعيم ميليشيا “حزب الله”، حسن نصرالله، مَن حسَمَ المعضلة وشكر الرئيس عون على موقفه التوفيقي حيال ما يُسمّى المقاومة، قبل توجيه إنذار إلى العدو الأوحد، إسرائيل، ومطالبته بتفكيك منشآته النووية. من هذا المنطلق، ذهب حسن نصرالله أبعد بكثير من رئيس الدولة ميشال عون. فقد سمح لنفسه بأن يهدّد العدو مباشرةً، ويقوّض أمن البلاد، في حين أنه لا يتمتع بأي صفة قانونية ودستورية ليفعل ذلك باسم لبنان. لا بد من أن الجميع فهموا إذاً أن حسن نصرالله هو الذي يؤدّي دور الحاكِم الحقيقي للبلاد، أو أقلّه، مَن يحدّد شروط ممارسة السيادة اللبنانية.
في مثل هذا السياق، لا يستطيع المواطن العادي سوى أن يشعر بتململ شديد، ويطرح أسئلة عدّة عن حماية شخصه وأملاكه وحقوقه التي يجب أن تكون حصراً من اختصاص السلطة العامة، أي الدولة السيادية وليس ميليشيا مرتهَنة للخارج تُجيز لنفسها أن تُحوِّل، لمصلحتها، بعض الصلاحيات المنوطة بالسلطة العامة.
لا شيء يمنع الدولة من نقل السيادة في مجال محدد من مجالات اختصاصها. تستطيع الدولة الامتناع عن صك العملة، وتبنّي عملة دولة أخرى. كما أنه يمكنها أن تقبل، لا بل أن تطلب وضعها تحت وصاية أجنبية في إطار تفويض دولي معترف به. لم تُجرِ الدولة اللبنانية، بواسطة حكومتها والتدابير الديبلوماسية، أي نقل للسيادة في مجال الدفاع لصالح إيران و”حزب الله” الذي يتبع ايران مباشرةً. كذلك، لم تعمد الدولة اللبنانية، حتى تاريخه، إلى إضفاء طابع قانوني على “حزب الله” كميليشيا ملحقة مدمجة بالجيش الوطني وتخضع مباشرةً لهيئة أركانه. ليست التصريحات التي أدلى بها رئيس الجمهورية إلى الإعلام المصري كافية لإضفاء أي نوع من الشرعية على هذه الميليشيا، حتى لو كانت تعبّر عن رأيه الشخصي. يمكن الاعتقاد أن الرئيس عون، وحرصاً منه على إرساء توازن في موقفه الاستراتيجي، اعتبر أنه من المناسب طمأنة الإيرانيين بعد الزيارات التي قام بها إلى بلدان عربية مختلفة معادية لإيران، وذلك عبر تأمين غطاء لـ”حزب الله” على رغم أحكام الدستور التي هو الوصي الوحيد عليها. يُظهر ذلك، في مختلف الأحوال، مدى ضعف موقع الرئاسة اللبنانية، وأنه لا يزال يجب تقديم البرهان على توصيف “الرئيس القوي” الذي أُعطي للرئيس عون.
تكشف هذه القضية البلاء الشديد الذي ينخر لبنان: تعدّد شخصياته. يبدو أن الدولة اللبنانية، كجسد، تمتلك العديد من “الأنا” التي لكل منها رؤية وإرادة قرار خاصتان بها. إذا كان الجسم بكامله لا يزال صامداً، فذلك يعود على الأرجح إلى إرادة حسن نصرالله دون سواه، فهو يستطيع أن يفرض، بحكم الأمر الواقع وبفضل ترسانته، قواعد اللعبة خارج كل الهيئات الدستورية.
لن نذهب إلى حد وصف هذا الوضع الغريب من ازدواجية الشخصية بأنه أشبه باحتلال مسلّح للبلاد، إلا أنه يمكننا أن نجد صدى مقلقاً له في قصيدة ألفريد دو موسيه الشهيرة:
“في كل مكان حيث أردتُ النوم،
في كل مكان حيث أردتُ الموت،
في كل مكان حيث لمستُ الأرض،
على طريقي جاء يجلس
غريبٌ يرتدي الأسود،
يشبهني مثل شقيق”.