إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
“الطُغمة العسكرية”وَفقَ تَسمية أُطلقت على الجنرالات والعقداء في أمريكا اللاتينية خلال القرن العشرين، استمرت في القرن الحادي والعشرين في أماكن قليلة مثل أفريقيا وجزء من الشرق الأوسط. وفي الشرق الأوسط تحديداً، اعتمدَ هذا النموذج شعارات الحروب القومية والطبقية: “العروبة” في مواجهة المستعمِرين السابقين والملوك ذوي الميول الغربية، والضباط العسكريين من أصول متواضعة (ريفية أو بدوية) في مواجهة الملوك والنُبلاء.
لذا، شهد الشرق الأوسط أمثال عبد الناصر وصدام والأسد والقذافي والطغمة العسكرية الجزائرية. جميعُهم جاءوا عِبرَ انقلابات عسكرية، حيث تدحرجت الدبابات إلى المُدن، وتم اعتقال الرؤساء المنتخبين أو الملوك الشرعيين وسُحِلَ بعضُهم في الشارع (في العراق)، والسيطرة على محطات التلفزيون وإذاعة البيان رقم 1 للانقلاب، ثم تليها سلسلة من الانقلابات المضادة والصراعات الدموية حتى يصبح آخر ضابط يقف حاملاً قنبلة يدوية في يده هو الديكتاتور الدائم للبلاد.
في المقابل، لم يحمل الجيش اللبناني أيديولوجيةَ الحربٍ السياسية أو الطبقية التي كانت سائدة في نظرائه العرب، كما أن تكوينه المتعدد (مَناطِقياً، وطائفياً، وطبقياً) جعله مُحَصَّناً ذاتياً ضد التآمر الداخلي، وبالتالي، لم يكن مهيأً أو مناسباً للاندماج في فصيلٍ سياسي متجانسٍ كـ”حزب البعث” أو غيره لإحداث انقلاب. كما أن الطبقة السياسية في لبنان، كونها القيادة الحقيقية للمجموعات الطائفية المختلفة، كانت ترى في الجيش قوة أمنية تفرض القانون والنظام تحت سلطتها وليس قوةً فوق السلطة المذكورة. فلا في زمن أمراء جبل لبنان، ولا في زمن الجمهورية – ابتداءً من عام 1943 – تَصرَّفَ الجيش كجيشٍ ذي طموح بِتَوَلّي شؤون الدولة.
فالعقيدة الأساسية للجيش اللبناني هي عقيدةُ تقوم على خدمة الدولة والمواطنين – لا على الحُكم – وعلى حماية الدولة والمواطنين – لا تهديد امنهم.
اللواء فؤاد شهاب وغيرهُ من قادة الجيش السابقين الذين أصبحوا رؤساء للجمهورية انتخبوا بالاقتراع وليس بالرصاص! لقد رفض الجنرال شهاب توريط الجيش في الحرب الأهلية المصغرة عام 1958 كما رفض الجنرال جوزيف عون سحق التظاهرات الجماهيرية المدنية في 2019 بالرصاص والردّ العنيف المُفرِط. وقبلَه، رفض الجنرال ميشال سليمان قمعَ مظاهرة 14 آذار 2005 في بيروت.
فقد رفض الجنرالان شهاب وجوزيف عون الانصياع لأهواء رئيس جمهورية في حينه والتزموا بأوامرهم وصلاحياتهم العسكرية في حماية الشعب وليس أي عهد رئاسي محدد. حالات قليلة شوهت هذه الصورة البَكر لجيش لا يتدخل في الشؤون السياسية. ففي ستينيات القرن الماضي، حاول بعض الضباط من “الحزب القومي السوري” القيام بمحاولة انقلابية تم وأدُها في مهدها. وفي ذروة الحرب الأهلية (1975ـ1976)، حاول كل من “عزيز الأحدب” و”ميشيل عون” اغتصابَ السلطة السياسية في ظل غياب حكومة شرعية أو حكومة فاعلة. وانتهت كلتا المحاولتين بهزيمة ساحقة وفوضى عارمة.
إذاً، لماذا أصبح اختيار جنرال الجيش شبه ”ضروري“ في مرحلة ما بعد الطائف؟
الجواب من شِقّين: بالنسبة لغالبية المسيحيين يبقى الجيش اللبناني ضمانةً لسلامتهم، سواء كانوا محقين أو مخطئين، من حُكم الميليشيات (سواء كانت “القوات اللبنانية” أو “حزب الله”)؛ وبالنسبة للمسلمين، فإن جنرال الجيش اللبناني هو بالضرورة شخصُ ملتزمُ بالقانون وغير طائفي (وإن كان مارونياً) يدير المؤسسة الوحيدة المتعددة الطوائف العاملة، وهي الجيش. لذا، فإن الجيش، عدا عن كونه المؤسسة العسكرية للدولة، كان – في ظل وجود طبقة سياسية متصارعة ومتناحرة طائفياً – الملاذَ الوحيد لِتولّي أعلى منصب في الدولة.
فجميع القادة السابقين تم انتخابهم بطريقة ديمقراطية، سواء بتدخل دولي أو بدونه، ولم يَغتَصِب أي منهم وظيفتَه للوصول إلى أعلى منصب في البلاد.
أما بالنسبة للتدخل الدولي، فإن جغرافية لبنان – وليس أهميته المتأصلة – تجعله بلداً حساساً يقع بين إسرائيل وسوريا، حيث انبثقت معظم المشاكل منذ عام 1969. ومن الطبيعي أن يبذل المجتمع الدولي جهوداً حثيثة لإيجاد حلول لأي مأزق أو مأزق في لبنان خشية انتقاله إلى شواطئهم.