لقد مرت الأعوام تلو الأعوام فوجد الفلسطينيون أنفسهم مؤخّرًا أنّ النكبات لم تعد حكرًا عليهم دون غيرهم، فنكبات الآخرين – سورية مثالاً – لا تقلّ مأساوية وبشاعة عن نكباتهم
الحقيقة المرّة هي أنّ الفلسطينيين، على غرار سائر الأقوام العربية في هذه البقعة من الأرض، قد نُكبوا بزعاماتهم قبل أن يُنكبوا بالأحابيل التي يحيكها لهم المتربّصون بهم، كما يشاع. فعلى مرّ السنوات، ومنذ بداية الصراع في هذه المنطقة، نُكب الفلسطينيون بزعامات لم تكن تملك ما يكفي من المعرفة بأحوال العالم وبموازين القوى التي تتحكّم فيه. كما إنّها، وعلى مرّ السنوات، لم تكن تعلم علم اليقين مدى هشاشة العالم العربي الذي كانت تعوّل عليه في الضرّاء. وفوق كلّ ذلك كان الانقسام في الصف الفلسطيني متجذّراً بين تيارين وزعامتين لا تريان أبعد من مصالحهما الذاتية.
لنقرأ معاً ماذا كتبت الصحافة الفلسطينية من العقود الغابرة. فها هي جريدة «مرآة الشرق» تهزأ في أيار (مايو) 1927 من الحاج أمين الحسيني، الشاب الذي حاول تغطية شبابه «بعمامة ولحية أو بلباس الوقار، ومشية الكبار». ثمّ تتساءل: «كيف يتصابى الغربيون في شيخوختهم، ونتشيّخ نحن الشرقيّين في شبابنا». ثمّ تصفه بأنّه «فتى طموح ينظر للبعيد ويرمي ليقود العالم العربي والإسلامي معاً وليقاوم أوروبا بكمشة فلسطين الصغيرة»، على رغم ما فيها «من المغامرة والغرور».
وتتطرّق الصحيفة إلى سيرة أمين الحسيني: «ترك العمامة والتحق بالجيش» عندما نشبت الحرب العظمى الأولى، ثم عاد وطالب بالإفتاء «وأخذ ينشر الدعاية ضد راغب بك [النشاشيبي] بأنه إنكليزي وصهيوني:» وتشير الصحيفة إلى شخصيــته بهذه الأوصاف: «معرفته بسيطة جـداً خالطـــها شيء من ضيق المدارك وقلة الحنكـــة. يعمل لأبناء عائلته ويودّ أن ينشلهم ويرفعهم فوق الناس لتكون لهم مكانـــة أعلى من مكانتهم، ولولا خوف الانتقاد لجعل المجلس الإسلامي مأكلة لهم».
وحول صراع الزعامات في ذلك الأوان تقول الصحيفة: «وقف في جانب وراغب بك النشاشيبي في جانب. وأبى كلّ منهما أن يتقرّب من الآخر، وجعلا كلّ همّهما القضاء المبرم على بعضهما بعضاً. ولو أنّهما كانا يعملان لمصلحة البلاد ما عملوه في النكاية، لكانت بلغت البلاد في الرقيّ شوطاً بعيداً». ثمّ يخلص الكاتب إلى القول بوجوب نفض اليد من هذه الزعامات: «وإنّي أتجاسر فأقول، إنّ من مصلحة البلاد إهمال هذين الرجلين، إذا لم يصلحا، وتنظيم صفوف الأمّة، ورسم خطّة وطنيّة قويمة». («مرآة الشرق»، 5/5/1927).
غير أنّ أحداً لم يهمل هذه الزعامات حتّى حلّت النكبة، وتفرّق الشعب أيدي سبأ. نستطيع أن نجزم أنّه لم يتغيّر شيء منذ ذلك الأوان، فالزعامات المتّصفة بالنزق وقلّة الإدراك تتناسل على مرّ الزمن من دون أن يفرز هذا الشعب من بين صفوفه من هم أهل لتحمّل المسؤولية الكبرى.
وإذا انتقلنا إلى هذا الأوان فماذا نحن واجدون؟ لقد انقلبت الآية الآن، فتيّار «المجلسيين» من الأيام الخوالي يسيطر علـــى غزّة، بينما تحكم «المعارضة» في رام الله. لـقـــد طال هذا الانقسام وأضحى من شبـه المستحيل تجسيره، فلا تظهر في الأفق أي انفراجة بهذا الموضوع. كما إنّ العداء بين هاتين الزعامتين أشبه بالعداوات القــديمــة التــــي فتكت بهـــذا الشعب. وهكذا فقد أضحت هذه الزعامات (المزعومة) جزءاً لا يتجزّأ من النكبة الفلسطينية الجديدة.
لقد مرت الأعوام تلو الأعوام فوجد الفلسطينيون أنفسهم مؤخّراً أنّ النكبات لم تعد حكراً عليهم من دون غيرهم، فنكبات الآخرين (سورية مثالاً) لا تقلّ مأساوية وبشاعة عن نكباتهم، والعالم مشغول بغيرهم وبقضايا أكثر عواصة من قضيّتهم التي لم يعد يلتفت إليها أحد. كما إنّ العالم العربي الذي يتّكئون عليه مشغول هو الآخر بقضاياه التي لها أوّل وليس لها آخر.
وعلى رغم كل ذلك، تواصل هذه الزعامات السلطوية في كلّ من غزة ورام الله التشبّث بالفتات السلطوي، بينما يدخل الشعب الفلسطيني في دوامات لا يعرف سبيلاً للإفلات منها.
والسؤال الذي لا مناص من طرحه في هذه الحال، ألم يحن الوقت لأن تتنحّى هذه الزعامات من مناصبها وتترك للشعب الفلسطيني الطريق لأن يختار من هم أقلّ فساداً، وأكثر تواضعاً وتحمّلاً للمسؤولية. من هم أكثر حكمة ودربة في التعامل مع العالم من حولهم. الأعوام الأخيرة قد أبرزت بما لا يبقي مكاناً للشك في أنّ من يضع بيضه في سلّة العالم العربي لن تبقى لديه بيضة واحدة سليمة.
منذ سنوات طويلة لم تجرِ انتخابات على الساحة الفلسطينية، ولهذا فإنّ هذه الزعامات القائمة هي بمثابة زعامات فاقدة للشرعية ولذلك أيضاً آن الأوان أن تذهب إلى غير رجعة.