إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
كان غاضبًا، يبتسم ابتسامات متقطعة أحيانًا، مرتديًا الشال الفلسطيني حول رقبته. كان يتحدث ويكتب بتأنٍ. لم يكن يتمتع بجاذبية ياسر عرفات ولا بثقة وهدوء محمود عباس. لم يظهر فيه أثر من القادة القدامى مثل جورج حبش، ونايف حواتمة (أبو جهاد) أو خالد الحسن، وشقيقه هاني الحسن الذي جاء مع عرفات إلى إيران ثم أصبح سفيرا لفلسطين في إيران، الذين كانوا يتجمعون في عواصم مثل بيروت، وعمان، والقاهرة، وبغداد، وتونس في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. كانت ثورة فلسطين آنذاك غير ملتحية ولا تحمل مسبحة في يدها.
بعد نجاح ثورة روح الله الخميني، فشلت الأنظمة العسكرية العربية العلمانية في تحقيق مطالب شعوبها، بينما تصاعدت قوة جماعة الإخوان المسلمين في مصر، والأردن، والسودان، وسوريا. في الوقت ذاته، قُتل قادة المقاومة مثل حبش، وحواتمة، وأبو حسن سلامة، وأبوالهول، وابو داود، وغيرهم إما على يد وحدات الموساد السرية أو عبر الأنظمة الثورية العربية مثل نظام صدام حسين ونظام حافظ الأسد. بقي عرفات ومجموعة من رفاقه الذين كانوا معه في الكويت، لكن مع الوقت، ماتوا.
ظهر الإسلاميون في ذلك الوقت، وأصبحت اللحية وشعار “الله أكبر” رموزًا للمقاومة الفلسطينية، فتغيرت معالمها. بينما كان رفاق حبش يخطفون طائرة “لوفتهانزا” ويتعاملون مع ركابها باحترام قبل تدمير الطائرة، إلا أنه مع صعود الإسلاميين أصبح تدمير الطائرة وركابها معا هو الهدف.
خالد مشعل، وإسماعيل هنية، ومحمود الزهار، ومرشدهم أحمد ياسين، جميعهم كانوا يؤمنون بمبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”. وفي السابع من أكتوبر 2023، رأينا تطبيق هذا الشعار من قبل حماس والجهاد الإسلامي.
وفي الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تحت قيادة بن غوريون، وموشيه دايان، وغولدامائير، وإسحاق رابين، كان الفلسطينيون يقاومون تحت قيادة حركة فتح والجبهتين الشعبية والديمقراطية. اليوم، في مواجهة نتنياهو وغالانت ونفتالي بينت، نجد السنوار والزهار وعارور على الجانب الآخر. عالم الستينيات وشعراء المقاومة الفلسطينية وليلى خالد، يختلف كثيرًا عن عالم اليوم.
فاليوم يقيم علي خامنئي صلاة الجنازة على إسماعيل هنية، وينتحب على السنوار، وساهم في إشعال غزة بقدر ما فعل نتنياهو، ويشارك في تشييع قيادات الحرس الثوري الذين ساهموا في قتل عشرات الإيرانيين، ويرفع شعار “اليوم هو يوم عزاؤنا”، لكن ليس للإيرانيين الذي قضوا بسبب آلة قتل الولي الفقيه في الإنتفاضة الخضراء وحتى اليوم، بل للسنوار.
من هو السنوار؟
لقد قُتل السنوار. كان واضحا أنه بعد مقتل هنية في طهران، ونصر الله في بيروت، وفؤاد شكر في الجنوب اللبناني، سيأتي دور السنوار أيضًا. في اليوم التالي لسبعة أكتوبر، كتبتُ موضوعين: الأول أن عملية حماس قد تمت بتوجيهٍ ودعمٍ مالي وعسكري من النظام الإيراني بهدف إسقاط خطة السلام الإبراهيمية. وفي الشهر الماضي، بعد انفجار أجهزة “البيجر”، كتبت استنادًا إلى مصدر موثوق أن هذه الأجهزة قد تم شراؤها من قبل الجمهورية الإسلامية.
وُلد السنوار في مخيم اللاجئين الفلسطينيين بخان يونس جنوب قطاع غزة. وقبل الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، انضم إلى حركة حماس التي أسسها الشيخ أحمد ياسين. في عام 1988، أسس السنوار جهازًا أمنيًا للحركة مسؤولًا عن ملاحقة المتهمين بالتجسس لصالح إسرائيل ومعاقبتهم، وأحيانًا إعدامهم.
تخرّج السنوار من الجامعة الإسلامية في قطاع غزة. وخلال 23 عامًا من السجن في إسرائيل، تعلم اللغة العبرية وأصبح لديه فهم عميق بثقافة المجتمع الإسرائيلي. حُكم عليه بالسجن مدى الحياة أربع مرات بتهمة قتل جنود إسرائيليين. وفي عام 2011، تم الإفراج عنه كجزء من صفقة تبادل أسرى مقابل الجندي الفرنسي-الإسرائيلي جلعاد شاليط.
فيما بعد، أصبح السنوار قائدًا بارزًا في كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، قبل أن يصبح زعيم الحركة في قطاع غزة. كان يحلم بإقامة دولة فلسطينية موحدة بين قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة منذ عام 1967، بما في ذلك القدس الشرقية.
في عام 2006، قاد انقلابًا دمويًا أنهى سيطرة السلطة الفلسطينية على غزة، ومنذ ذلك الحين حكمت حماس القطاع. فشلت جميع محاولات المصالحة بين فتح وحماس. اتخذ السنوار نهجًا متشددًا في التخطيط العسكري ونهجًا عمليًا في السياسة. كان يقول دائمًا: “أنا لا أحارب من أجل السلطة، بل أحارب من أجل التفاوض مع إسرائيل من موقع قوة”.
في عام 2015، أُدرج اسمه مع محمد الضيف، قائد كتائب عز الدين القسام، في قائمة “أكثر الإرهابيين المطلوبين” لدى الولايات المتحدة.
بحسب مصادر مقربة من محمد دحلان، القائد في حركة فتح والذي ترك غزة لحركة حماس والجهاد الإسلامي، فإن السنوار والضيف هما من أسسا شبكة أنفاق حماس في غزة. في مايو الماضي، تعهد وزير الدفاع الإسرائيلي غالانت بالقبض على السنوار ومحاكمته. وقال غالانت: “لو وصلت إليه مبكرًا، لكنت ساعدته على تحمل المسؤولية خلال فترة الحرب”.
زار السنوار إيران مرة واحدة وقبّل أكتاف المرشد الأعلى. وعندما قُتل هنية في طهران، كان قادة حماس يستعدون لمبايعة خالد مشعل، لكن مشعل رفض الانصياع لإيران. كانت لديه علاقات واسعة مع دول المنطقة، ولذلك وبأمر من خامنئي، تمت مبايعة السنوار.
الوجه المدمّر والعظام المكسّرة في زاويةٍ من خرابة، كان هذا هو مصير من أحرق غزة والمسؤول عن مقتل 40 ألف فلسطيني تماماً كمسؤولية نتنياهو. الولي الفقيه ينكّس علم الجمهورية الإسلامية في حداد على أحد أبناء الولاية. لكن في غزة، هناك شاب يلعنه، بعد أن فقد منزله وأبوه، وشقيقته نائلة البالغة من العمر ثلاث سنوات. في بيروت، العلّامة علي الأمين، رجل الدين الشيعي، لا يذرف دمعةً على نصر الله ولا يقرأ الفاتحة على روح السنوار. علي الأمين، في مقابلة مع قناة “الحدث”، اعتبر السنوار ونصر الله من سلالةٍ لا تؤمن إلا بالموت، وربما مع موتهم تنتهي مآسي إيران ولبنان والعراق واليمن، بل والعالم.
في أقل من شهر، تلاشى أهم أتباع نائب الإمام (خامنئي). نُهبت مليارات الدولارات من بيت المال (الإيراني) لتأجير خدم لدولة الولاية في أنحاء الشرق الأوسط، والآن انضمّ قادتهم إلى الأبدية. عيون الولي الفقيه متجمدة في خوف وهي تحدق نحو السماء، منتظرة: متى سيأتون؟
في السابع من أكتوبر كتبتُ أن، من وجهة نظر نتنياهو “رأس الأفعى” يوجد في غزة، و”رأس الحية” في لبنان، و”رأس التنين” عند تقاطع أذربيجان. تم سحق رأس الأفعى والحية في غزة وبيروت، والآن جاء دور التنين. وفي خضم ذلك، جاءت البيانات المناهضة للحرب من عدد من المثقفين والمفكرين والفنانين (الإيرانيين) لتثير الانتباه.
ذلك الفلاح الذي قاد جيش الإسكندر عبر طريق خلفي ليصل إلى جيش “آريوبرزن”، والفلاح الذي قطع رأس “يزدجرد” طمعاً في خاتم ووشاح، وأولئك الذين فتحوا أبواب الوطن للروس، أو الذين حددوا الأهداف لصواريخ الطاغية التكريتي، جميعهم مجتمعين لا يساوون عُشر الأبطال الذين ضحوا بأرواحهم، مرة بجوار “كورش” في بابل، ومرة أخرى لتحرير الوطن من يد حاكم بغداد الدموي وصولاً إلى “ماه نخشب”.
عندما طردوا أتباع الروس من أذربيجان بجيش الثورة الصديق لستالين، وعندما ألقوا بالطاغية الدموي التكريتي من خرمشهر إلى مزبلة التاريخ. أين ذاك الذي كان يحلم بالخلافة بجوار الوطن، اليوم؟
المثقف الإيراني، بعد التجربة اللامعة للثورة الدستورية (الإيرانية عام 1904)، ومنذ أن بدأت حركة “توده” بالعمل، إما بصورة مستقلة أو لخدمة مصالح خارجية، أصبح غريباً عن “فردوسي”، لكنه كان يعرف بدقة مقاس نظارة “ماركس” وطول شارب “ستالين”. ثم كانت تجربة عام 1979 عندما سُلِّمَت الأمة الإيرانية إلى الجمهورية الإسلامية، وهي تجربة 45 سنة المُرّة من احتلال إيران.
في ذلك اليوم الذي كان هاشمي رفسنجاني يتحدث مع مبعوثي ومستشاري جورج بوش الابن، وفتح السماء الإيرانية لهم، وبعد حرب العراق وطالبان، اشتكى من عدم وفاء الحكومة الأمريكية بوعودها، حيث أخذت مزايا كثيرة ولم تعطِ النظام شيئاً في المقابل. في ذلك اليوم، نشر أكثر من 500 مثقف إيراني في أمريكا وأوروبا إعلانات مكلفة في الصحف الأمريكية والبريطانية والفرنسية، مستنكرين الحرب ضد إيران، وطالبوا بوقف أي نوع من الهجمات على بلادهم.
لم تكن هناك أي حرب ضد إيران على أجندة بوش، ولم يكن هناك أي تفكير لتوجيه ضربة. لقد أزالت أمريكا اثنين من أعداء النظام الرئيسيين، وكان هذا أعظم مكافأة للتعاون بين الحرس الثوري وأمريكا.
الآن، وفي وقتٍ اشتعلت فيه النيران بسبب سياسات النظام في طهران، ومع سقوط سريع لراية الإسلام الثوري المحمدي في فلسطين ولبنان واليمن، يتطلع الشعب الإيراني إلى إطلاق حركة كبيرة أكثر من أي وقت مضى. ومع ذلك، يتذمر البعض من الإيرانيين الذين يتمنّون تحرير وطنهم، من براثن الذئاب الحاكمة. إسرائيل لا تستطيع، من الناحية اللوجستية، إرسال قوات برية لاحتلال إيران، لكن نتنياهو يريد رأس التنين.
هنية، فؤاد شكر، حسن نصر الله، نيلفروشان، هاشم صفي الدين، والآن السنوار، كلهم تركوا ولي الفقيه وحيداً، وانضموا إلى الأبدية بفضل صواريخ نتنياهو الدقيقة. الفراق القاسي لن يتيح للسيد (الخامنئي) أن ينجو من هذا الليل.