إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
تبذل طهران ووكلاؤها كل ما في وسعهم لزعزعة استقرار الأردن خلال حرب غزة، من التحريض على الاحتجاجات وزيادة تهريب المخدرات والأسلحة وإلى تصعيد التهديدات المسلحة من العراق.
بعد سبعة أشهر من بدء الحرب في غزة، تحجم الدول العربية عن إعلان علاقاتها المستمرة مع إسرائيل. وعلى الرغم من الازدراء العلني الواسع النطاق لإسرائيل في المنطقة، إلا أن الاتصالات الهادئة لا تزال مستمرة. وجاء أوضح دليل على التعاون العربي المستمر مع الدولة اليهودية في 13 نيسان/أبريل، خلال الهجوم الإيراني غير المسبوق بالصواريخ والطائرات بدون طيار. ففي تلك الليلة، وبرعاية الولايات المتحدة، شاركت عدة دول عربية بدرجة أو بأخرى في مساعدة إسرائيل على تعقب واعتراض وإحباط أكثر من 300 قذيفة إيرانية كانت تستهدف إسرائيل. وربما ليس من المستغرب أنه من بين الدول العربية المعنية، وجّهت طهران أشد انتقاداتها إلى الأردن.
ويقيناً، أن حرب غزة وضعت الأردن في موقف محفوف بالمخاطر. فالمملكة ليست في سلام مع جارتها إسرائيل منذ عام 1994 فحسب، بل تحافظ أيضاً على علاقات وثيقة مع واشنطن، وتلعب المملكة الهاشمية “دوراً مميزاً” في إدارة الأماكن المقدسة الإسلامية في القدس، كما أن حوالي 60 بالمائة من سكانها هم من أصل فلسطيني. وقد انتشرت الاحتجاجات في جميع أرجاء الأردن منذ بدء الحرب في تشرين الأول/أكتوبر. وفي حين يبدو أن المملكة قادرة على التعامل مع المظاهرات، إلا أن التركيز الإيراني المتزايد على الأردن يثير القلق. فطهران ترى أن الأردن ضعيف وتسعى إلى استغلال الحرب لزعزعة استقرار المملكة.
وفي الفترة التي سبقت الهجوم الإيراني في 13 نيسان/أبريل، حذرت طهران الأردن من التدخل. وذكرت “وكالة أنباء فارس” التابعة للنظام أن إيران “تراقب تحركات الأردن”، وإذا تدخلت المملكة “فستكون الهدف التالي”. وفي أعقاب الضربة، يبدو أن إيران نظمت حملة إعلامية وإلكترونية ضد الأردن لدوره، وفقاً لبعض التقارير، في إسقاط طائرات إيرانية مسيّرة والسماح للطائرات والأنظمة الإسرائيلية المضادة للصواريخ بالانخراط بأعمال قتالية فوق أراضي المملكة. كما زعم نظام الحكم الديني أن عمّان استضافت مركز قيادة عمليات التحالف لإحباط الهجوم.
وردّ الأردن على الانتقادات الإيرانية من خلال التقليل من أهمية علاقته بإسرائيل، وبدلاً من ذلك وضع القضية في إطار مسألة السيادة، حيث صرح وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي قائلاً: إن الأردن تصرف على أساس سياسته تجاه “…أي شيء يدخل مجالنا الجوي… لأنه يشكل خطراً على الأردن، وقمنا بما يتعين علينا القيام به لإنهاء هذا التهديد وهذا ما فعلناه”. وفي الوقت نفسه، بدا أيضاً أنه يحمّل إسرائيل مسؤولية القصف الإيراني، حيث أشار إلى ضرورة “التعامل مع سبب كل هذا التوتر، وهو العدوان الإسرائيلي على غزة”.
وفي محادثات مع نظيره الإيراني في ذلك الوقت حسين أمير عبد اللهيان بعد وقت قصير من يوم 13 نيسان/أبريل، سعى الصفدي إلى اتباع مسار استرضائي. فقال لوزير الخارجية الإيراني إن الأردن يريد “علاقات طيبة” مع طهران، ولكن ذلك يتطلب، من بين أمور أخرى، “عدم التدخل في الشؤون الداخلية [للأردن]”. وقال: “مشكلة إيران مع إسرائيل وليس مع الأردن، ولا إيران ولا غيرها تستطيع المزاودة على ما يقوم به الأردن وما يقدماه الأردن وما قدمه تاريخياً من أجل فلسطين”. وبعد أسبوعين، وفي غياب أي تقدم على هذه الجبهة، استدعى الصفدي السفير الإيراني احتجاجاً على تصريحات “مسيئة” للأردن “من قبل وسائل الإعلام الإيرانية، بما فيها وكالة الأنباء الرسمية الإيرانية”.
غير أن التدخل الإيراني في الشؤون الأردنية يتجاوز الانتقادات والإهانات العلنية. وفي الواقع، إن الأمر الأكثر إشكالية هو أن التدخل الإيراني في المملكة يمتد إلى وكلاء طهران وحلفائها الإقليميين، الذين كانوا منشغلين بشكل متزايد منذ تشرين الأول/أكتوبر بمحاولة زعزعة استقرار الأردن.
على سبيل المثال، انتقد “حزب الله” اللبناني الأردن – إلى جانب المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة – لمواجهته الهجوم الإيراني على إسرائيل. فبعد أيام من الغارة، حذر نائب الأمين العام للحزب نعيم قاسم من أن شعوب الدول العربية التي دعمت إسرائيل في 13 نسيان/أبريل “ستحاسبهم”. كما أن ميليشيا “كتائب حزب الله” في العراق الشقيقة لـ “حزب الله” اللبناني والتابعة لميليشيات “الحشد الشعبي” المدعومة من إيران هددت المملكة الهاشمية. ففي مطلع نيسان/أبريل، أعلنت “كتائب حزب الله” أنها تستعد لتجهيز 12 ألف مقاتل في المملكة بالأسلحة، بما فيها القاذفات ضد الدروع (الصواريخ المضادة للدبابات) والصواريخ التكتيكية لنشرها ضد إسرائيل. وقال أحد مسؤولي الكتائب: “لنبدأ أولاً بقطع الطريق البري الذي يصل إلى الكيان الصهيوني”.
وتشكل هذه التهديدات مصدر إزعاج للمملكة الهاشمية، لكن أنشطة الوكلاء الإيرانيين الآخرين تخلف تأثيراً أكثر مباشرة. فإغلاق باب المندب وتعطيل الشحن التجاري في البحر الأحمر من قبل وكلاء إيران اليمنيين، أي الحوثيين، على سبيل المثال، له تأثير ضار على ميناء الأردن الوحيد أي العقبة. فقد انخفضت حركة الحاويات إلى العقبة بنسبة 23 بالمائة تقريباً في الأشهر الأولى من عام 2024 مقارنة بعام 2023. كما انخفض إجمالي الصادرات في شباط/فبراير بنسبة 36 بالمائة تقريباً مقارنة بالعام السابق، وانخفضت إيرادات ميناء العقبة بشكل حاد.
وفي الوقت نفسه، ارتفعت صادرات المخدرات غير المشروعة إلى الأردن من سوريا، الشريك الاستراتيجي لطهران. فقد شهد عام 2024 ارتفاعاً كبيراً في عدد الشحنات المحظورة من الأمفيتامين كبتاغون المهربة عبر الحدود الشمالية للمملكة. ويقوم الجيش الأردني على نحو متزايد بإسقاط طائرات مسيرة تنقل المخدرات من سوريا، وينخرط في تبادل لإطلاق النار مع عصابات المخدرات على طول الحدود. وبعد شهرين من بدء حرب غزة، قصفت القوات الجوية الأردنية مصنعاً للكبتاغون في سوريا.
ومما يزيد الطين بلة هو أن هذا التهريب من سوريا إلى الأردن يركز بشكل متزايد على عبور الأسلحة، بما فيها الأسلحة الخفيفة، ولكن أيضاً الأسلحة المضادة للدبابات وقاذفات الصواريخ والمتفجرات والألغام المضادة للأفراد. وفي حين أن بعض هذه الأسلحة، التي نقلها عملاء تابعون لإيران، سيبقى في المملكة، إلا أن الغالبية العظمى منها تمر عبر الأردن متجهة إلى الضفة الغربية، التي تسعى طهران أيضاً إلى إغراقها بالأسلحة على أمل تقويض الأمن الإسرائيلي.
ومع ذلك، فإن الأمر الأكثر إشكالية بالنسبة للأردن هو تصرفات “حماس” – وهي عضو آخر في ما يسمى بـ “محور المقاومة” الإيراني. ففي الأشهر الأخيرة، وبتشجيع واضح من طهران، اتخذت “حماس” عدة خطوات تهدف على ما يبدو إلى تقويض الاستقرار في المملكة. ففي “اليوم العالمي للمرأة” في آذار/مارس، ألقى رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” خالد مشعل خطاباً عبر الإنترنت من قطر دعا فيه ملايين الأردنيين إلى النزول إلى الشوارع للاحتجاج وإظهار الدعم لـ”حماس”. وفي اليوم نفسه، أصدر أحد زعماء “حماس” في غزة محمد الضيف تسجيلاً يحث فيه العرب الذين يعيشون على حدود إسرائيل (أي الأردنيين) على الانضمام إلى القتال ضد الدولة اليهودية.
وفي الآونة الأخيرة، في 24 نيسان/أبريل، ألقى المتحدث باسم “حماس” أبو عبيدة – الذي أصبح الآن بطلاً شعبياً في المملكة – خطاباً بمناسبة مرور 200 يوم على حرب غزة. وفي خطابه دعا أبو عبيدة الأردنيين إلى “تصعيد أعمالهم” و”رفع صوتهم” ضد إسرائيل. وتشير التقارير الإعلامية إلى أن الخطاب انتشر على نطاق واسع، حيث تصدر هاشتاغ #أبو_عبيدة البحث في موقع X (المعروف سابقاً باسم “تويتر”). وبعد فترة وجيزة، تجمع حشد كبير للاحتجاج أمام السفارة الإسرائيلية في عمّان.
ويأخذ الأردن تحريضات “حماس” على محمل الجد. فلا عجب إذاً أن عمّان رفضت على الفور اقتراح قيادة “حماس” بالانتقال إلى الأردن إذا ما اضطرت إلى مغادرة قطر. وكانت المملكة قد طردت “حماس” في تشرين الأول/أكتوبر 1999، قبل وقت طويل من تطوّر الحركة إلى جماعة إرهابية ذات مستوى عالمي كما هي اليوم.
وفي أعقاب هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، ينظر الأردن بشكل متزايد إلى “حماس” على أنها تشكل تهديداً مدعوماً من إيران. في عام 2004، بعد فترة وجيزة من الغزو الأمريكي للعراق، تنبأ العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني ببصيرة بقيام “هلال شيعي” تهيمن عليه إيران. وبعد عقدين من الزمن، أصبح هذا الهلال، الذي تسيطر عليه طهران ووكلاؤها، يعتدي على المملكة، بينما توفر حرب إسرائيل المستمرة مع “حماس” في غزة فرصاً لم تكن متاحة سابقاً أمام النظام الديني الإيراني لإقحام نفسه في الأردن ومحاولة تقويض استقراره.
وحتى الآن، أثبتت قوات الأمن الأردنية براعتها في إدارة المظاهرات، مستخدمة الغاز المسيل للدموع والهراوات عند الضرورة، ومتجنبة الأساليب الأكثر عنفاً واستفزازاً للسيطرة على الحشود وتفريقها. ومع ذلك، فعلى الرغم من النهج المدروس الذي تتبعه الأردن، فإن الطبيعة المستمرة للاحتجاجات والتعاطف العميق لكثير من السكان مع معاناة الفلسطينيين في غزة لا يتركان أمام المملكة مجالاً كبيراً للخطأ.
وكما تبين من الهجوم الإيراني في 13 نيسان/أبريل، فإن مثابرة الأردن كشريك سلام مؤيد للغرب وقوة للاعتدال لا تزال مصلحة أساسية للولايات المتحدة في المنطقة. وللأسف، ليس هناك الكثير مما يمكن أن تفعله واشنطن – فيما يتخطى الحفاظ على دعمها المالي الكبير الحالي وتعاونها الاستراتيجي الوثيق مع الأردن – لتعزيز قدرة المملكة على مواجهة الحملة الإيرانية الحالية. وفي حين قد يكون من المفيد اتباع سياسة أمريكية أكثر قوة تجاه إيران ترفع التكلفة التي تترتب على طهران نتيجة جهودها لزعزعة استقرار شركاء الولايات المتحدة عبر وكلائها، إلّا أنه من غير المرجح أن يتم تبني هذا النهج في أي وقت قريب. وكما حدث في كثير من الأحيان في الماضي، سيتعين على الأردن الاعتماد على قواته الأمنية، ومخزونه من الدعم المحلي، ومناوراته الذكية، للتغلب على العاصفة. ونظراً للتهديد الإيراني الحاد، فمن المرجح أيضاً أن يلعب التعاون الأمني الأردني الإسرائيلي المستمر والعميق بل الهادئ دوراً مهماً في المساعدة على ضمان أمن المملكة.
ديفيد شينكر هو “زميل أقدم في برنامج توب” في معهد واشنطن، ومدير “برنامج «روبين فاميلي» حول السياسة العربية” التابع للمعهد. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على الموقع الإلكتروني لـ “معهد هوفر”.