أهم المفارقات في سيرة إسرائيل كدولة أنها تتوقّع أن تُعامل بطريقة استثنائية، وأن تحصل على حسومات أخلاقية وسياسية نتيجة: أولاً، تاريخ اليهود ومأساتهم في الحرب العالمية الثانية، وثانياً، إحساس ضمني وصريح تشاركها فيه قوى كبرى، وثقافات سائدة، أنها أفضل من العرب، وثالثاً، تقاطع مصالحها الاستراتيجية مع مصالح أقوياء في العالم. والشاهد أن فشل العرب، في تحديث مجتمعاتهم، وإنشاء أنظمة ديمقراطية حديثة، أسهم في تعزيز الاستثناء. وهم لا يصدّرون غير النفط، والإرهاب، والمهاجرين، في الوقت الحاضر.
تفرّعت عن استثناء كهذا استثناءات إضافية منها أن الدولة الإسرائيلية في مكان وهويتها الثقافية في مكان آخر. فهي جزء من آسيا الغربية، ولكنها فكّرت في هويتها الثقافية كجزء من أوروبا، وانتظرت من الآخرين قبولها، والتعامل معها، بهذا المنطق. والمشكلة أن أوروبا نفسها تغيّرت بعدما اختلطت فيها، على مدار نصف قرن مضى، أعراق وقوميات وثقافات مختلفة. لذا، فإن هوية أوروبا الثقافية، في صيغتها الحالية، لا تمثل مصدر إحراج للاستثناء الثقافي الإسرائيلي وحسب، بل ومصدر تهديد، أيضاً.
والمشكلة، أيضاً وأيضاً، أن إسرائيل نفسها تغيّرت. فالانتساب إلى هوية ثقافية أوروبية، الموروث من استيهامات تنتمي إلى القرن التاسع عشر، كان مصدر إحساس بالتفوّق على قاطني آسيا الغربية من عرب وعجم، ودليلاً عليه. هذا، بطبيعة الحال، من روافع ومرافعات المخيال الكولونيالي، ولكنه في حكم الماضي الآن. فاليهودية جزء من الانفجار الهوياتي، الذي يكتسح العالم، وتعيد كما تفعل أديان غيرها تقويم علاقتها بالدولة.
وكما تفعل أديان غيرها، فإن نقد ونقض هوية أوروبا الثقافية، ونموذجها الدولاني، ونظام الديمقراطية الليبرالية، وسيلتها للتعبير عن فرادتها وتفرّدها، وعن حقها غير المنقوص في إعادة هيكلة الهوية الثقافية لإحياء واستعادة ما يسمها من خصوصيات مزعومة عابرة للقرون. لذا، تتعرّض هوية الاستثناء الإسرائيلي الأوروبية لضغط متزايد ومتصاعد من أسفل. وعندما يكتب بعض الليبراليين الإسرائيليين عن المحكمة العليا بوصفها آخر قلاع الديمقراطية، وعندما ينتقد بعض المتدينين القوميين المحكمة نفسها بوصفها غير يهودية، ينبغي تصديق هؤلاء وأولئك. ففي الخلاف، بين هؤلاء وأولئك، تتجلى أزمة الدولة الإسرائيلية.
وثمة ما يبرر، في الواقع، النظر إلى الاستثناء الإسرائيلي، وما يتصل به من حسومات أخلاقية وسياسية، بوصفه أحد المصادر الرئيسة للمراوحة بين حرب دائمة، وسلام محتمل. فعلى مدار سبعة عقود مضت، لم تتمكن إسرائيل من وضع حد للحرب بطريقة حاسمة ونهائية، ولا من تحقيق السلام بطريقة حاسمة ونهائية، أيضاً. ويكاد التسليم بالحرب كقدر أعمى، والسلام كحلم مستحيل، يكون جزءاً من التكوين النفسي والمخيال الجمعي للإسرائيليين.
ومرجع الأمر ليس عناد الفلسطينيين والعرب (فهذا جزء من العزاء العاطفي والأيديولوجي) بل ما يَسِم موقف إسرائيل كدولة من ارتياب عميق في إمكانية، واحتمال، وحقيقة، وجود حل دائم لشيء ما. يمكن للباحث في التجربة التاريخية لليهود واليهودية، في الماضي القريب والبعيد، العثور على شواهد مختلفة للتدليل على أمر كهذا. ولكنها تظل سجالية في أغلب الأحوال، ويمكن الرد عليها، استناداً إلى التجربة نفسها، في الماضي القريب والبعيد، بشواهد للتدليل على ما يخالف هذا الأمر.
فالمرجع، كما أعتقد، يكمن في صميم الاستثناء الإسرائيلي نفسه، وما يتفاعل ويعتمل فيه من ديناميات خاصة، جعلت من المؤقت، في نظر الإسرائيليين، أفضل مقاربة وعلاج للدائم. فما لن تحصل عليه اليوم قد يصبح ممكناً في يوم قادم، وثمن السلام قد يكون باهظاً أكثر من ضريبة الحرب. والأهم من هذا وذاك: هل ثمة من معني ثابت؟ ما هو السلام، وما هي الحرب؟
في الأكاديميات العسكرية، وأقسام السياسة، والتاريخ، والاستراتيجية (وحتى علم النفس) في الجامعات، يدرس الطلاب نظريات مختلفة تتصل بالمعاني المحتملة للسلام والحرب، وتاريخ النظريات المتداولة يمتد منذ “صن تزو” في القرن الخامس قبل الميلاد، وحتى يوم الناس هذا. وهي تتمحور في الغالب حول أسئلة من نوع: هل الحرب دافع رئيس من دوافع الإنسان أم عرض طارئ، وما علاقتها بالتقدّم والحضارة، وتكوين الدول والجماعات القومية؟
ثمة إجابات مختلفة، بطبيعة الحال. وإذا استثنينا لحظة الديمقراطية الليبرالية، بعد الحرب العالمية الثانية، وما تركته من نفوذ على نظريات الحرب والسلام، ونظرتها إلى السلام كجوهر ثابت في الإنسان، والحرب كعرض طارئ، فإن كفّة القائلين بالحرب كدافع رئيس اكتسبت المزيد من الأهمية في السجالات النظرية في مطلع قرن وألفية جديدين. وربما ليس من قبيل الصدفة أن يكون بعض الإسرائيليين، من منظري الاستراتيجية والحرب (وثمة نخبة في العالم من هؤلاء، إذا كنتم لا تعلمون) في طليعة القائلين بأولوية الحرب كدافع رئيس للإنسان على الأرض.
بمعنى آخر، لا يشكو الارتياب في الدائم، وتفضيل المؤقت، ندرة المرافعات الفكرية، خاصة في عالم يبدو وكأنه أصيب بلوثة من الجنون. من الحماقة التفكير أن ميل الإسرائيليين إلى المؤقت انبثق دفعة واحدة، وفي لحظة واحدة، فقد تضافرت وتفاعلت عوامل مختلفة وكثيرة، على مدار عقود، في تصعيده من مكان ما في قائمة الردود المحتملة على الواقع إلى رأسها. ولكن من الحماقة أكثر التفكير في احتمال أن تتم عملية تصعيد كهذه في معزل عن الاستثناء الإسرائيلي، وما ينطوي عليه من حسومات أخلاقية وسياسية.
وعلى خلفية كهذه يتجلى الجرح النرجسي الفظيع، الذي سببه قرار مجلس الأمن بإدانة الاستيطان، وامتناع الأميركيين عن التصويت. فالقرار يفتقر إلى آلية التنفيذ والإلزام، ولكنه يُسهم، حتى وإن كان عابراً، في زعزعة الاستثناء، الذي يُقوّض، إذا وهنت أركانه، فكرة أن أفضل حل دائم هو المؤقت، ويضع الدولة على حافة الجنون.