إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
في العادة، أتذكّر “مارونيتي” مرّة في السنة، في عيد “مار مارون” تحديدًا. فأتذكّر أنني من مواليد الطائفة المارونيّة، التي تحتفل بعيد شفيعها في التاسع من شهر شباط من كل سنة.
في الواقع، أتذكّرها أيضًا عندما أُسأَل عن طائفتي، لا سيما أن معظم أصدقائي المسلمين، أكثر من المسيحيين، يعتقدون بأنني أرثوذكسي، بسبب “انفتاحي” و”عدم تعصّبي” وفق ما يقولون.
بالرغم من ولادتي في “عاصمة الموارنة”، في جونية، وفي “عرين الموارنة”، في قضاء كسروان، فإنني لم أتشبّع بهذا الانتماء لا في تربيتي العائليّة ولا في مدرستي عند “الإخوة المَريمِييّن”. ربما يكون غياب الاختلاط الطائفيّ في مدينتي ومنطقتي لم يسمح لي بمقارنة “انتمائي” مع انتماءات طائفيّة أخرى، وبالتالي اكتشاف خصوصيّتي على مستوى الانتماء الطائفي!
حياتي الجامعيّة أمضيتها بأكملها في فترة الحرب، فكان لا بدّ لي من أن أتعرّف أكثر على الأحزاب المارونيّة، “الكتائب” “الأحرار” و”القوات” لاحقًا، لا سيّما أنني درست في الجامعة اللبنانيّة “الفرع الثاني” بعد أن أصبحت فروعًا بحكم الحرب، فلم أحظَ بفرصة التعرّف على الأحزاب الأخرى، التي كانت تتحرّك في المقلب الآخر، في “الفرع الأول” في بيروت، والتي كانت في حرب مع أحزاب “الفرع الثاني”. فكان لا بدّ إذن من أن أحتكّ مباشرةً بأفكار أحزاب ما سُمِّيَ في حينها بــ”الجبهة اللبنانيّة”، وفي خلفية هذه الأفكار الموقع المسيحي، والماروني تحديدًا، في التركيبة السياسيّة اللبنانيّة.
على المستوى الفكري كانت تغلب “مسيّحيتي” على “مارونيتي”، و”يساريتي” و”علمانيتي” على “لبنانيتي”، بالرغم من عدم تعاطفي مع ممارسات أحزاب ما سُمِّيَ “بالحركة الوطنيّة”، بعد انتقادي لها باكراً واتهامي لها بالطائفيّة. لكن نزعتي “اليساريّة” المستقلّة عن الأحزاب اليساريّة، “الشيوعيّ” و”منظمة العمل الشيوعي” وغيرهما، مدعّمة بنزعتي “المسيحيّة” المسالمة والمنفتحة على الآخر، لم تمنعاني من التعاون مع طلاب أحزاب “الجبهة اللبنانيّة” في أنشطة جامعيّة، مما سمح لي بتحسِّس القضايا التي كانوا يحاربون من أجلها، وفي صلبها الخطر الذي كان يتهدّد ” الوجود المسيحي” و”الماروني” بشكل خاص.
لم أكن احتاج لهذا الاحتكاك مع طلاّب الجامعة لأدرك أنه، فعليًّا، كان هناك خطر يتهدّد وجودي على هذه الأرض.
فعمليات التهجير من الجهتين كانت قائمة ومستمرّة، كما أن القائد الفلسطيني أبو أياد كان قد صرّح بكل وقاحة أن “طريق القدس تمرّ في جونية”، أي عبر منزلي. حتى أن أصدقاء حزبيّين من الكتائب حاولوا إقناعي بالتدرّب عسكريًّا لحماية نفسي في حال حصل هجوم علينا، لكن نزعتي اللاعنفيّة حالت دون انخراطي في تدريب من هذا النوع.
لم تصمد “مارونيتي” الناشئة طويلاً، ففي عمر باكر جدًّا انخرطت في النضال النقابيّ على المستوى الوطني. فبالكاد كان عمري خمساً وعشرين سنة، عندما أصبحت مستشارًا في الاتّحاد العمالي العام بقيادة أنطوان بشارة في ذلك الحين. ورحت أتنقّل بين شرق بيروت وغربها بشكل منتظم، وأختلط بالمسلمين أكثر من اختلاطي بالمسيحيين، إضافةً لتعرّفي من كثب على حزبيين من أحزاب اليسار.
نزعتي اللاعنفيّة تطعّمت سريعًا بنزعتي الطبقيّة-الوطنيّة، المتجاوزة للاصطفافات الطائفيّة والمذهبيّة، ورحت أنظّر سريعًا لضرورة تخطّي هذه الاصطفافات في مواجهة مع الحرب وأطرافها. وكنت من الناشطين والمؤثرين في التحرّكات الضخمة ضد الحرب التي نظّمها الاتّحاد العمّالي العام سنة 1987، والتي تُوِّجت في مظاهرات حاشدة في وسط بيروت، قادمة من شرق وغرب بيروت على حدّ سواء، ومتحدّية الميليشيات والسواتر الترابيّة.
بمعنىً ما، حلّت “لبنانيّتي” محلّ “مارونيّتي”، مع بداية التسعينيّات، لكنّها سرعان ما تلاشت مع انخراطي في الحركة النقابيّة الدوليّة كممثل للمنطقة العربيّة.
تحسُّسي لمشكلات المنطقة العربيّة لم يجعل منّي مع ذلك “عروبيًّا”. حتى أن ترسّخَ التزامي بالقضيّة الفلسطينيّة لم يحصل على أساس “عروبة القضيّة” بقدر ما كان على أساس عدالتها، وكموقف مبدئيّ ضد الاحتلال والهيمنة الصهيونيّة والغربيّة على المنطقة. لكن رفضي للهيمنة الغربيّة لم يُحل دون انتقالي من “لبنانيتي” إلى “أُمَمِيّتي” أي تنامي شعوري بأنني أنتمي إلى الإنسانيّة جمعاء. في هذا السياق، أعتقد بأن عدم تبلور “عروبيّتي” هو على الأرجح نتيجة تسارع نمو “أمميّتي” بفعل انخراطي الناشط في الحركة النقابيّة الدوليّة. ولا شك في أن نزعتي الطبقيّة المتأصّلة، المترافقة مع نزعتي المسيحيّة-الإنسانيّة، ساعدت في ذلك.
عاملان ساهما بعد انتهاء الحرب في مراجعتي لــ”مارونيتي”، وفي إعطائها معنىً وجوديًّا آخر؛
عامل من الماضي وعامل من الحاضر. كنت في مطار بيروت مغادرًا إلى الأردن على ما أذكر، أتصفّح بعض الكتب في مكتبة المطار، عندما لفت انتباهي كتاب صغير عن تاريخ الموارنة للمؤرّخ كمال الصليبي. تحمّست فجأة لشرائه، أنا الذي لم يكن قد قرأ من قبل إلّا الشيء اليسير اليسير عن تاريخ الموارنة، ذلك أنني كنت منغمسا بقراءة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي مع إهمال كامل لتاريخ الطوائف، بما فيها طائفتي. ربما تحمّست بسبب صغر الكتاب، أو ربما بسبب مغادرتي لفترة بلادَ الطوائف، فأحببت النظر إلى واحدة منها من بعد. وربما كان ذلك بدايةَ تغيّر في موقفي من الموضوع نتيجة العامل الثاني، الآتي من الحاضر، كما سنرى.
تعلّمت كثيرًا من كتاب كمال الصليبي، وأهمه هو هذا الجهد العظيم الديني والسياسي والإقتصادي والدستوري والقانوني، الذي بذلته الطائفة المارونيّة لبناء هذا الكيان الذي اسمه لبنان.
بالطبع لم تكن المرة الأولى التي أقرأ فيها عن دور الموارنة في بناء لبنان، لكن براعة المؤرّخ في شرح هذا الجهد المتكامل للطائفة المارونيّة وعلى كافة المستويات، بعيدًا من الموقف الإيديولوجي الماروني، ساهم في تكوين صورة جديدة لديّ حول هذه الطائفة ومهمّتها التاريخيّة، إن صحّ التعبير.
وما أبهرني هو ترافق تأثير الموارنة عبر التاريخ مع انفتاحهم على كافة الطوائف، في المكان والزمان، سياسيًّا واقتصاديًّا وديموغرافيًّا.
هذه البلاد التي أعيش فيها، ها هي تنهار أمام عينَي، بالتوازي مع انهيار الطائفة المارونيّة، سياسيًّا واقتصاديًّا وديموغرافيًّا. هذا التوازي بين الخطّين، خط الطائفة المارونية وخط الوطن، هو أكثر ما صدمني. وفي هذا الإطار يتدخّل العامل الثاني في مراجعتي لـ”مارونيتي”، وهو العامل الآتي من الحاضر هذه المرّة.
فالحاضر يشهد على انكفاء هذه الطائفة على كافة المستويات التي ذكرت، والانكفاء ليس “طبيعيًّا”، بل نتيجة خسارة الحرب عسكريًّا أولاً، كما هو نتيجة الإقصاء لاحقًا، والذي استتبع هذه الخسارة. وإذا كانت الخسارة قد أتت على يد الجيش السوري أساسًا، فالإقصاء يتم تدريجيًّا على يد محور الممانعة بقيادة “حزب الله”.
لكن هذا الإقصاء ليس للموارنة حصريًّا، كما يُفهم من عظة البطريرك الماروني في عيد مار مارون، بل هو إقصاء للوطن، بدستوره وقوانينه وثقافته التعدّديّة وحرياته، وهو يطال كافة فئات شعبه، بما فيها فئة كبيرة من الطائفة الشيعيّة.
ها هي “مارونيتي” تحيلني مجدداً إلى “لبنانيتي”، وها هو موقفي منها يتصالح رويدًا رويدًا، مع تمسّكي بنزعاتي اللاعنفيّة، اليساريّة والعلمانيّة، في مواجهة نظام إقليمي-محلي، ديني وعسكري معادٍ للحرّيات ولأي مفهوم طبقي. وفي هذا كله ترجمة عملية محلية لنزعتي الإنسانية الأممية.
هذه التأملات حول “مارونيتي” تستحق أكثر من مقال لإعطائها حقّها، وتوضيح ما حملته من أفكار، لي ولغيري من المواطنين.
نص مثير للاهتمام حيث يتساوق السرد الشخصي مع سرد المسار العام
مقال جيد!
لكن لدي سؤال:
من أين جاء هذا الانطباع عن الارثوذكس بوصفهم منفتحين وغير متعصبين؟
هذا سؤال استفهامي، وليس لإثارة نعرات طائفية.